فاجأته غابة من الميكروفونات فتنحنح وفكر في شيء يقوله لكن الكلمات لم تسعفه فتنحنح ثانية.
ليس لديه ما يقوله في هذا اليوم المهدور في أحاديث مكرّرة ومجاملات وصمت غير بليغ وابتسامات أوتوماتيكية. تمنى لو يعود سريعا إلى نفسه يحدثها كما كان يفعل حين يغضب أو يفرح. تمنى لو لم يكن مجبرا على ارتداء هذا اللباس الخفيف تجاوبا مع طقوس لا تأخذ برد الشتاء بعين الاعتبار. تمنى أن يصير غير مرئي يعبر عمره مهرولا دون أن يستوقفه صاحب حاجة أو أن يجامله من يشتمه في سرّه أو يتعرّض لتعنيف ناعم من مبكر في الصعود على السلّم. تمنى لو لم يكن مطوقا بهذا السوار الذي يعد نبضات قلبه ويرتب كلماته على نحو مضبوط سلفا.
اقتربت الميكروفونات و ارتفعت الهمهمات: ما رأيك؟
لا رأي لي، و أنتم تعرفون ذلك، لكنكم تمعنون في التمثيل مثلي تريدون هواء تنفخون به بالوناتكم المثقوبة، حسنا سأعيد عليكم ما قلته ألف مرّة بصيغة أخرى ما دام حمل الهواء لا يتعبكم، سأقول لكم، مثلا، أن الأمور لم تكن على ما هي عليه وسأسمح لكم بتأويل كلامي في الاتجاه الموجب، ولا بأس إن خدمت جملكم الغرض وأكملت ما في هوائي من نقصان.
سأقول لكم أني انتبهت إلى ما لم ينتبه إليه أحد، وأني أخجلت الكارثة بوقوفي في مهبّها، ثم أدعوكم إلى محو ما سمعتم في روايات مغلوطة حُبكت لتضليلكم.
اقتربت الميكروفونات و ارتفعت الأيدي. فكر في قول شيء، لكنه تذكر أنه ليس في حاجة إلى ذلك. ثمة جمل توضع في متناول اللسان لتستخرج عند الحاجة، هكذا قيل له في طقوس التعميد، ضعها قربه ولا تذهب أبعد منها فتضيعها وتضيعك.
مرات كثيرة ينطق أخوه الذي قيل له حين كان صغيرا أنه كامن في صدره كرادار لينبهه عند الضرورة ، فيقول له ماذا تفعل هنا؟ لكنه يرفع يدا ناهرة في وجهه: لم يكن اسمي القديم كافيا ليسترني ويسترك! ثم يقهقه و هو يعيد على مسامعه اسمه القديم وصفاته و أحلامه الصغيرة التي لا تصلح سوى لسهرة واحدة.
اقتربت غابة الميكروفونات أكثـر: ما رأيك؟ كيف تقيّم؟ هل صحيح؟
ابتسم، وفي لحظة سهو ابتلع الكلمات التي كانت في متناول اللسان، حاول ملاحقتها لكنها استقرت في الأعماق.
اقترب من الميكروفونات وتمتم: “ وهو كذلك”!
سليم بوفنداسة