فقد العالم بغياب غونتر غراس صوتا قويا من أصوات الحق القليلة. إذ لم يكن الرجل كاتبا كبيرا فحسب، بل كان مثقفا إشكاليا لا يتردّد في إبداء رأيه الذي كان مخالفا دوما للتوجهات المهيمنة ولخطاب المركزية الذي يخفي نزعات استعمارية وعنصرية.
ورغم حملات التشويه في الصحافة الألمانية والغربية إلا أن غراس أكمل شيخوخته عاصفا مانحا صفة الكاتب سطوة افتقدت في زماننا.
وإذا كانت الحرب عليه قد بدأت منذ كشفه سرّ انتمائه إلى قوات النخبة في الجيش النازي، فإن محاولات إخراجه من الجنة استعرت بعد أهجيته الرفيعة لإسرائيل قبل ثلاث سنوات والتي أدان فيها صمت الغرب على هذه الدولة ومنافقته لها، هي التي منحت لنفسها حق امتلاك الأسلحة النووية وحرمان خصومها من ذلك. صوت كهذا يبدو نشازا في أوروبا التي يروّج بعض مثقفيها للحروب الجديدة بشعارات نشر الحرية والتدخل الإنساني، بل وحتى من أجل الدفاع عن الدولة ذاتها التي خصّها غراس بالنقد. في صورة برنار هنري ليفي الذي ذهب بقميصه الأبيض إلى خنادق القتال في ليبيا كرسول خلاص، و إلى اليوم لازال الجند في الخنادق فيما ينظّر الفيلسوف في استديوهات التلفزيونات أو يستريح في المنتجعات من الفلسفة والحروب مع قطته الميكسيكية.
وقبل وفاته بأيام حذر غراس من حرب خفية لا يراها الناس وقال أن الحرب العالمية الثالثة المتوقعة هي ما يحدث الآن، وبالطبع فإن الحرب لا تدور هذه المرة على الأرض الأوروبية، لأن الأوروبيين شبعوا من الحروب وتفرغوا للرفاهية بكل ما تقتضيه من غاز ونفط ودماء تستخرج وتسفك في الجنوب المكبل باستعمار جديد غير معلن.
رحيل غراس جاء بعد فترة قصيرة من غياب روائيين شكلا أيضا ضمير العالم وقيمة يفخر بها المنتسبون إلى هذا العصر، هما غابريال غارسيا ماركيز و خوسيه ساراماغو، وهما أيضا صاحبا توجه يساري ونزعة إنسانية وازنا بين عظمة الإبداع وعظمة الموقف في مراحل حرجة من التاريخ الإنساني.
لكأن العالم يتخلّص من أبنائه الطيبين، دفعة واحدة، كي يفسح المجال واسعا لأشراره.
سليم بوفنداسة