لم يفهم لماذا أجلسوه هنا لكنه جلس مستسلما لخاصيته الجديدة و التي منعته من مبادلة العابرين التحية أو استلام السجائر التي عرضت عليه أو شرب القهوة. لم يستطع حتى الحديث في العلب الصغيرة التي عرف، فيما بعد، أنها اختراع متأخر للعلم تُبقى صوت حاملها متاحا في كل حين. حاول جاهدا فرز الجمل التي يرطن بها المحيطون به وهم يقتنصونه في آلاتهم الصغيرة. حاول أكثر من مرّة القيام لكن وضعه الجديد منعه من ذلك. شعر بضيق. ضاق بالأيدي التي تمتد إليه. ضاق بالقبل. ضاق باسمه منطوقا. ضاق بالغبار بالسيارات التي تتوقف بالنساء بالنهار الطويل كفيلم مملّ. ضاق بالصفات التي تُنسب إليه. ضاق بمقولاته مبتورة في الخطب. ضاق بتلك القصيدة في الكتب المدرسية وفي جُمل تلاميذ السياسة. ضاق باستدراجه إلى مواضع لا تلائم طبعه.ضاق بذكرياته مستعادة. ضاق بذاته متخيلة أو ممثلة. ضاق بما كانه وما صار عليه. تمنى لو يستطيع التنفس بعمق أو الصراخ. لكنه يعرف أن صرخته العظيمة ستبقى مكتومة خلف معدن يحمي صدره من الأذى و لا يمنع عنه الألم. تمنى لو يستطيع إغماض عينيه ليقنع نفسه أنه في حلم سينتهي بعد قليل. تمنى لو يستطيع البكاء ليمسح الخيبة وأطفالها الذين يلعبون عند قدميه. تمنى لو يستطيع الركض بلا توقف حتى يهلك بعيدا في الأحراش و “يُنسى”.
لم يفهم لماذا أجلسوه. لم يفهم الذين أجلسوه لماذا فعلوا ذلك. فكرة ما عبرت خيال أحدهم وتجسدت بسرعة، ثم انتظم الطقس تلقائيا: أطفال يريدون اللعب، ممثلون يبحثون عن مسرح لترشيد صرف الهستيريا، قبائل تبحث عن طوطم.
تجري الأمور دائما على هذا النحو، تعبر فكرة ما رأس أحدهم وتنزل إلى الشارع الذي يتجاوب مع الأفكار العبقرية ويدعمها بالأساطير المؤسسة.
يعرف الصنهاجي الذي كان يدرّس ابن خلدون لطلبته قبل نهوض الشياطين من نومها أن أحوال الأمم متغيرة. ويعرف أن الحضارة تبدأ ببناء الإنسان قبل الجدران. ويعرف الآن أن حلمه لازال مؤجلا. ويعرف أن التاريخ أخذ طريقه في المنحدر.
ملاحظة
لا يشبه التمثال صاحبه لكنه يعبّر بصدق عن حال من يمثلهم في جلسته الحزينة وسط الغبار والضجيج.
سليم بوفنداسة