رواية تحتفي بالإنسان بوصفه ظاهرة كونية
في الاِنتقالات الجذريّة، تتشابكُ الأحداث، وربّما تتشابهُ المُقدمات بين كثيرٍ مِمّن اِنتهوا إلى نهاية واحدة. وفي الرحلةِ من الشكِّ والإنكارِ إلى اليقين، تأملاتٌ –مهما تشابهت- تظلُ خاصة عند أصحابها، فلكلّ منهم، طريقٌ يحفظها في تلك الرحلة، أفضت به في النهاية إلى حقيقة راسخة.
إلهام بلحاج
العنوان جاء من كلمة واحدة (كاليفورا) وكان عنوانًا موفقًا بحسب حبكة الرواية. رضا أستاذ الفلسفة بالجامعة المكتظ بالصراعات الفلسفيّة من أجل الوجود. فهو المحور في كلّ محطة، كلّ محطة تتوالى عليه وخزات وضربات وطعنات، سهام وصدمات من أجل البحث عن الذات، فالرواية تنتقل من رضا إلى نضال في زمن سردي معين. النص مبني على فرضيات سردية تجعل من كاليفورا الذبابة الزرقاء علامة داخل النص، لها علاقة بالموت والحياة. الرواية تحيلُ القارئ إلى عوالم ترحلُ به عن الواقع السقيم، وهذا من خلال الاِقتباس بِمّا جد من حِكم وأقوال الفلاسفة وزُهاد المُتصوّفة، فحكاية الفراشات الثلاث إذ يعرضن تجاربهن منه إلى اليقين وبلوغ عتبة الحقيقة، فرضا ليصل إلى غايته، اِعتمد على التصوّف من خلال كِبار أقطابه كالحلاج..
رواية «كاليفورا» الصادرة عن دار خيال للنشر والترجمة والتوزيع، (عدد صفحاتها 240 صفحة). فلسفيّة مُعقدة وعميقة، كلما غصتَ فيها أكثر زادَ في رئة ذائقتك أوكسجين الدهشة. أوضح وأكبرُ جماليات هذه الرواية هو لغة الكاتبة الأدبيّة الساحرة الفاتنة، تلك اللّغة التي تسمو عن المألوف، وهناك نعانق الأدب. أسلوبُ الرواية بلاغي مجازي فلسفي باِمتياز، وظفت فيه الكاتبة ثقافتها لخدمة القصة، وذلك من خلال الاِقتباس الّذي اِستخدمته في بعض مفاصل الرواية بالإحالة على كثير من الرموز الدّينيّة والثّقافيّة والأدبيّة والاِجتماعيّة.
كما اِختارت الكاتبة أن تكون وجهة النظر في الرواية بضمير الأنا لرجل، (رضا، نضال)، فمن السهل أن تكتب المرأة بصوت المرأة، فهي تعرف كلّ خفاياها النفسيّة، لكن أن تكتب بصوت رجل فتلك مجازفة كبيرة، لكن الكاتبة نجحت بتفوّق، حتّى أنّنا ونحن نقرأ نسيناها تمامًا، ولم يعد أمامنا سوى رضا ونضال، مقتنعون تمامًا أنّهما هما من يتحدثان، وهذا هو النجاح.
أيضاً الترابط كان قوياً بشكلٍ كبير بين أجزاء الرواية، أوّلها مع منتصفها مع نهايتها، لم تُهمل الكاتبة أي جزء من الرواية، فقد وزعت الأحداث المُهمة على جسد الرواية كاملاً، وبالتالي لم يكن هناك فراغ في أي جزء. الشخصيات جاءت مُتماهية مع حبكة القصة، فلم نجد أي شخصية زائدة بلا هدف. فقد نجحت الكاتبة في تصوير الشخصيات بشكلٍ دقيق من النواحي الشكليّة والمعرفيّة والثّقافيّة والنفسيّة، فصرنا نعرف الشخصيات جيداً ودون لُبس.
من جهةٍ أخرى، أعطت الكاتبة نبيلة عبودي لجميع شخصياتها حقها من الظهور، بِمَّا يخدم قصتها، اِحترمتها جميعها، رئيسيّة وثانويّة، واستطاعت أن تجعل الشخصيات تقول كلّ ما تريد أن تقول وبصوتها الخاص بها. كما أنّ الوصف في الرواية كان دقيقًا وجميلاً، وصف الأشخاص والأحداث والمشاعر، ولم يكن مُبالغًا فيه بحيث يطغى على السرد أو يُبطئُ حركته. وقد سيطرت الرواية بشكلٍ جميل على روح الأفكار والمعاني كعادة الفلاسفة والحُكماء تسألُ أكثر مِمّا تجيب، وتنصتُ للسّماء أكثر من الأرض.
لقد قدمت الرواية وبشكل لافت نصًا جريئا يحتفي بالإنسان بوصفه ظاهرة كونية عابرة للزمان والمكان من خلال اِسترجاعها مشاعر من زمن بعيد، وكلّ ذلك بطريقة مُمتعة ودينامية تتحكمُ في العلاقة بين النص والقارئ عبر قدرة الكاتبة المُراوحة بين تأليف النص وتحليل النفس في سياق الأحداث.