تحتمي اللّغةُ بالحاجة إليها، أي بوظيفتها، في عالم يشهد تسارعا في اختفاء اللّغات وفق الإحصائيات التي تقدّمها اليونيسكو.
وإذا كانت حملات الاستعمار وراء النّكبات التي حلّت بكثيرٍ من اللّغات في السّابق، فإنّ التحدي يختلفُ اليوم، ليس بسبب الحُظوة التي منحتها العولمة للغات إمبراطوريات العصر فحسب، بل بفعل التغييرات التي فرضتها التكنولوجيا على منظومات الاتصال والتواصل والتي تجعلُ الأفرادَ يختارون لغتهم "حبًّا وطواعيّة" مُفرطين في "المصير المشترك"، الذي هو شعار أُممٍ تحاول جعل اللّغة بيتًا وعنوان إقامةٍ، بل إن التكنولوجيا تكاد تعصف باللّغات السائدة وهي تفرض الرّمز بديلاً لا عناء في استخدامه.
لذلك، لا تنفعُ حماسة أو خطب في صيّانة لُغةٍ أو دفعها إلى ألسنة المتخاطبين، كما يحدث في المناسبات السعيدة التي يُحتفى فيها بالعربيّة التي لا تبدو تعيسة إلى الحدّ الذي يروّج له المحبّون والخصوم.
ما تحتاج إليه هذه اللّغة هو دفعها نحو أصابع التائهين في الملكوت الأزرق، سواء عبر محتوى من آداب و تعابير ومعارف أو عبر إبداع تكنولوجي، أما الباقي من الحظ فإنّه مرتبطٌ بالمستوى الحضاري للناطقين بها و "الإغراءات" التي يقترحونها على أبناء الحضارة وغيرهم للإقبال عليها، مثلما يحدث مع اللّغات الكبيرة التي دفعتها القوّة الاقتصادية إلى الواجهة.
وتكشف المقارنة بين عدد الناطقين بالعربيّة و الإحصائيات المرتبطة بالقراءة و أرقام سحب الكتب، مثلاً، عن مشكلة في تعاطي "المكتوب" من هذه اللغة، الذي يبدو ضعيفًا أمام لغات تحتلّ مرتبة متأخرة في التصنيف، ما يعني أنّ العربية في الوقت الراهن مضطرة للعودة إلى خزائنها القديمة في معرض المباهاة و الارتكاز على المشافهات الضائعة بين الألسن المحليّة التي تستخدم الفصحى في طلب الدّرس كما تستخدم غيرها من اللّغات.
وربما كان من الأجدر توجيه النّقاش نحو هذه المفاصل، عوض استدعاء المقدّس للبرهان على الجدوى، لأنّ مكانة اللّغة خاضعة للسلّم المفروض في هذا السوق الكبير الذي يجعل قيمة "الشيء" من مدى الحاجة إليه.
سليم بوفنداسة