يتهدّد الموت اللغات، تماما كما يتهدّد الكائنات التي تختفي من مسرح الوجود بانتفاء جدواها أو تلاشي أعضائها. تختفي اللغة، وقد يغيّرها مستعملوها مثلما غيّر الإنسيّ جلده القديم منذ اكتشف اللّباس الذي أنهى عهود عُريه وأبعده عن إخوته الحيوانات إلى غابة أخرى، ليشكل تجمّعا بحيّل أكبر وقسوة أشدّ.
وتتوقّع دراسة لليونيسكو اختفاء 5500 لغة في قرننا الفضيل هذا، ولا ينفع بكاء منظمة العلوم والثقافة على مجزرة تستهدف التراث الإنساني في تغيير وضع اللّغات المعنية بالموت.
وبالطبع فإن هناك أسباب البقاء وأسباب الزوال.
وبقاء اللّغة مرتبط باستخدامها وانتشارها وبما تنتجه وبجدواها الاقتصادية، ويحذّر مختصّون من انقراض لغات نجحت في الصّمود حتى أمام لغات الاستعمار بسبب ثورة الاتصالات التي وحّدت أساليب التخاطب في العالم وجمعت البشرية على لسان واحد.
ولا يثير الانسحاب الصامت للغة سوى انتباه الباحثين المختصين، ولا يمكن إنقاذ لغة توفّرت أسباب انصرافها بالحب أو بقرارات سياسيّة. لأن وصول جيناتها إلى مداها يوقف بطريقة طبيعية استمرارها.
ما سبق يستدعيه نقاش غير علمي حول اللّغات في الجزائر وصل حدّ التعصّب بشأن العربية و الأمازيغية، وهو نقاش قديم يتجدّد حول حيف مسّ اللغات المحلّية منذ شروع السلطات في مسعى التعريب القسري. ويأخذ النقاش في الغالب أبعادا إيديولوجية بدوافع إثنية غير معلنة، حيث تتحوّل اللّغة إلى دليل وجود وسبب بقاء وتكتسب صفة كهنوتية لا تناسب وضعها كلغة.
وإذا كانت السلطات السياسية قد أنهت الجدل، أخيرا، بدسترة الأمازيغية كلغة رسميّة إلى جانب العربية، بكلّ ما يعنيه ذلك من جبر للخواطر واعتراف بمكونات الثقافة الجزائرية، فإن تطور اللغتين يقتضي ما يقتضيه من إنتاج فني وثقافي وتعليم ورواج وجدوى و نجاعة اقتصادية، لأن التطوّر يأتي من داخل اللّغة نفسها وليس من خارجها، واللّغة التي لا تستطيع السير لا يمكن إسنادها.
فلو فحصنا واقع الحال لوقفنا على حال آخر، لأن لغة الاقتصاد ولغة الآداب والفنون ولغة الحكم و اللغة الأثيرة لدى الجزائريين واللغة التي تطير بأجنحة، هي لغة أخرى غير اللغتين المذكورتين، صحيح أنها غير مدسترة، لكنها لغة الأمر الواقع!
سليم بوفنداسة