غاب جورج طرابيشي في وقت كانت الحاجة إليه أشدّ، أي في مرحلة نكوص الذات العربية إلى مراحل بدائية، حالة تقتضي وجود مُبصرين بمشارط تحليل ومعارف تمكن من التشخيص و التبويب، أي تستدعي وجود أكثر من جورج طرابيشي. مع أن ذلك يبدو غير قابل للتحقيق، لأن طرابيشي ينتمي إلى سلالة انقرضت في عصرنا.
لم يتوقف الرجل عند الماركسية، التي انتهى فيها الكثير من مجايليه، ولم يعتنق مذهبا وينصرف له، بل خاض في الفلسفات والمعارف والآداب دارسا وناقدا ومحللا ومترجما، لم يكتف بنقل الفلسفة الغربية إلى العربية، لم يكتف بتشريح الآداب والفنون، لم يكتف بفحص الذات العربية، متسلحا في كل ذلك بعدة معرفية جبارة، فهو الذي أخضع الرواية العربية للتحليل النفسي، وهو الذي قرأ العلاقة المأزومة بين الشرق والغرب عبر أبطال “فاتحين” حاولوا النيل من الغرب بتأنيثه من عصفور الحكيم الذي حمّل بائعة تذاكر السينما ما لا تطيق، إلى بطل سهيل إدريس المعتد الواقع تحت وطأة الشعور بالذنب في الحي اللاتيني إلى مصطفى سعيد الذي يغرز سكاكينه في سباياه الواقعات تحت تأثير سحره وبخوره، وهو الذي رفع الحجاب عن نجيب محفوظ، وكشف كيف “خدع” الروائي العظيم القراء الذين لا “حيلة” لهم بكتابة ظاهر للعامة ومستتر للخاصة في تحليل أمّن عليه محفوظ ذاته.
وهو قبل ذلك وبعده من تصدى لمشروع الجابري في نقد العقل العربي في سجال معرفي رفيع لا نظير له في العصر الحديث.
لقد أخضع طرابيشي المخيال العربي للتحليل وكذلك فعل مع النخب ليصل إلى مكمن الداء، أي أنه شخص المشكلة العربية لذلك خيب مساعي الباحثين عن مواقف سياسية آنية، هو الذي يعرف ما تعنيه “الطائفية” في التاريخ الإسلامي المعذب. أي أنه كان يعرف المآلات وهو يعيد قراءة التاريخ ويشير صراحة إلى المرض الذي يرفض العرب الشفاء منه، لذلك كان من العبث أن ننتظر من طرابيشي إصدار البيانات أو النزول إلى غبار المعارك كما فعل فلاسفة الميديا الذين أفسد التلفزيون أحوالهم وزادت عليهم شبكات التواصل الاجتماعي، والذين هم في حاجة إلى الاستلقاء على الأريكة شأنهم شأن النخب السياسية والشعوب العظيمة المعصوبة جماعيا.
حسبه أنه شرّح الذات (الجثة) العربية وترك قاعدة «بيانات» للأجيال الجديدة من الباحثين، إن وجدوا.
سليم بوفنداسة