الخميس 19 سبتمبر 2024 الموافق لـ 15 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

المشرط والجثة

غاب جورج طرابيشي في وقت كانت الحاجة إليه أشدّ، أي في مرحلة نكوص الذات العربية إلى مراحل بدائية، حالة تقتضي وجود مُبصرين بمشارط تحليل ومعارف تمكن من التشخيص و التبويب، أي تستدعي  وجود أكثر من جورج طرابيشي. مع أن ذلك يبدو غير قابل للتحقيق، لأن طرابيشي ينتمي إلى سلالة انقرضت في عصرنا.
لم يتوقف الرجل عند الماركسية، التي انتهى فيها الكثير من مجايليه، ولم يعتنق مذهبا وينصرف له، بل خاض في الفلسفات والمعارف والآداب دارسا وناقدا ومحللا ومترجما، لم يكتف بنقل الفلسفة الغربية إلى العربية، لم يكتف بتشريح الآداب والفنون، لم يكتف بفحص الذات العربية، متسلحا  في كل ذلك بعدة معرفية جبارة، فهو الذي أخضع الرواية العربية للتحليل النفسي، وهو الذي قرأ العلاقة المأزومة بين الشرق والغرب عبر أبطال “فاتحين” حاولوا النيل من الغرب بتأنيثه من عصفور  الحكيم  الذي حمّل بائعة تذاكر السينما ما لا تطيق، إلى بطل سهيل إدريس المعتد الواقع تحت وطأة الشعور بالذنب في الحي اللاتيني إلى مصطفى سعيد الذي يغرز سكاكينه في سباياه الواقعات تحت تأثير سحره وبخوره، وهو الذي رفع الحجاب عن نجيب محفوظ، وكشف كيف “خدع” الروائي العظيم  القراء الذين لا “حيلة” لهم  بكتابة ظاهر للعامة ومستتر للخاصة في تحليل أمّن عليه محفوظ ذاته.
وهو قبل ذلك وبعده من تصدى لمشروع الجابري في نقد العقل العربي في سجال معرفي رفيع لا نظير له في العصر الحديث.
لقد أخضع طرابيشي المخيال العربي للتحليل وكذلك فعل مع النخب ليصل إلى مكمن الداء، أي أنه شخص المشكلة العربية لذلك خيب مساعي الباحثين عن مواقف سياسية آنية، هو الذي يعرف ما تعنيه “الطائفية” في التاريخ الإسلامي المعذب. أي أنه كان يعرف المآلات وهو  يعيد قراءة التاريخ ويشير صراحة إلى المرض الذي يرفض العرب الشفاء منه، لذلك كان من العبث أن ننتظر من طرابيشي إصدار البيانات أو النزول إلى غبار المعارك كما فعل فلاسفة الميديا الذين أفسد التلفزيون أحوالهم وزادت عليهم شبكات التواصل الاجتماعي، والذين هم في حاجة إلى الاستلقاء على الأريكة شأنهم شأن النخب السياسية والشعوب العظيمة المعصوبة جماعيا.
حسبه أنه شرّح الذات (الجثة) العربية وترك قاعدة «بيانات» للأجيال الجديدة من الباحثين، إن وجدوا.
سليم بوفنداسة

 

المزيد من الأعمدة

حارةُ المُؤثرين

هل تستطيعُ وسائطُ التّواصل الاجتماعيّ حمل الخِطاب الثقافيّ، وهل يسلمُ، في حال استخدامها من الخِفّة التي تفرضها...

  • 17 سبتمبر 2024
المهيمنُ لا يتحرّج

لا يستريحُ القتلةُ في الصيّفِ، فكلّ الفصول مُناسبة لإراقة الدم، ولعلّهم نجحوا في تحويل المقتلة...

  • 29 جويلية 2024
كرمٌ مُعلن

يمكن اعتبار الاحتفاء بالناجحين علامة صحيّة، لما في ذلك من تقديرٍ للعلم ومُحصّليه، شرط أن يكون...

  • 22 جويلية 2024
محنة الرواية!

تعرّضت الكاتبة إنعام بيّوض إلى حملة تشهير بالغة السوء على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد نشر صوّر...

  • 15 جويلية 2024
محاذير الفرح!

أثار الفرح "المبالغ فيه" بالنّجاح في مختلف امتحانات نهاية السنة، الجدل بين مناصرين للحقّ في...

  • 01 جويلية 2024
«ترندينغ»

تكفّلت مواقع التواصل الاجتماعي بترتيب اهتمامات "الرأي العام"، مُنهية بذلك احتكار وسائل الإعلام...

  • 24 جوان 2024
سِرُّ مالك!

بقدر الدهشة التي تخلّفها جُملته، بقدر الحسرة التي ينتهي إليها قارئه، حسرة على عدم اكتمال قصّة وعلى الصّمت...

  • 03 جوان 2024
«الطريق»

توفر الوسائط التكنولوجيّة "حياةً جديدةً" للإبداع، من خلال القنوات التي تفتحها مع المتلقّي، مختصرةً الجهد والوقت...

  • 27 ماي 2024
الفيلسوف متوحشا

أصاب الحراك الطلّابي في الغرب، الفيلسوف الفرنسي الصهيوني الهوى ألان فينكلكروت بالرّعب، إلى درجة...

  • 20 ماي 2024
الخروج من حُجرة الكتابة

خرج بول أوستر من "حجرة الكتابة" تاركًا أبطاله لمصائرهم الغامضة وشعبًا يتيمًا في مختلف اللّغات، هو...

  • 06 ماي 2024
قطارُ الباطل

سلّطت الاحتجاجاتُ الطلابيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة الضوء على هيمنة اللّوبي الصهيوني على...

  • 29 أفريل 2024
صعلكة

  أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي...

  • 23 أفريل 2024
ضرورة التفكير في المجتمع

  سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا...

  • 16 أفريل 2024
المخفيّ

حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان...

  • 26 فبراير 2024
اختراق

شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة...

  • 19 فبراير 2024
خِفّـــة

يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي...

  • 12 فبراير 2024
وصفُ السّعادة!

تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في...

  • 05 فبراير 2024
القيمة والشّعار

يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك...

  • 01 جانفي 2024
كبارُ "الباعة"!

سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت...

  • 18 ديسمبر 2023
مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة...

  • 11 ديسمبر 2023
Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com