تحتاج إلى أكثر من حياة، لأنها حياة أخرى لذلك يقال أن الضالعين في إثمها لا ينالون إلا واحدة منها، حتى وإن عدّدوا في غرامها الأسماء. هي كتاب الكائن المقدس. هي انتباهه إلى العالم واختصاره تدوينا.
فيها تبوّب النزوات ويُصنّف الألم وتُحشر الكائنات وفق مشيئة، هي مزاج "صاحبنا" وعبثه وانتقامه من حياة جرت عكس هواه. لذلك يحمل عرشه إلى الماء ويشرع في بناء حياة بديلة قوامها اللغة المستخلصة من محلول الحيلة المتبّلة بمسحوق التنكر تضاف إليها مستحضرات التلميح المعروفة باسم "الفن" الذي هو ضرب من علوم المكر التي تجعل الأشياء معروفة دون الحاجة إلى تسميتها.
لا يمكن أن يكون الطبّاخ هنا مجرّد أجير يُطعم حاجته بما يثيره صنيعه من شهوات لدى الجياع، لأن ربّ الطبخة مُطالب باختراع أكلة لا نظير لها تُعد مرة واحدة وتؤكل في كل الأوقات، من ميزاتها أنها تضلّل النسّاخ الذين لن يهتدوا أبدا إلى تكرار مذاقها.
يحتاج من يقترفها إلى حياة كاملة: سريعة، مختصرة أو مضغوطة كي يخبر دورة الأشياء فلا يتلعثم على الأبواب وتضيع مقاصده كأي "بريكوص" يسرّع خياله تحصيل المتع فيضيعها!
يحتاج إلى حطب من كلّ الجهات. يحتاج إلى صمت ينمو فيه ويموت امتثالا لنواميس القيمة التي تضيق بالضجيج.
لا خوف على الطبخة، إذا، من المتجاسرين الذين يعرضونها على حواف الطرقات. لا خوف على الرواية مادامت هناك قلّة تصون هذا الفن وتحميه من كبار تجار السوق العربية الذين يشترون الأثر والرؤوس تعويضا عن "افتقاد الشيء" ومحاولة لكسب وجاهة يوفرها الفن، فاستدرجوا كتاب الحوادث إلى أرض الرواية المباركة بجوائز مختلة الموازين في قراءة هذا الفن العظيم، تماما مثلما استدرجوا الشعر إلى منابر التباري أمام جماهير التلفزيون المفتونة بالسجع.
وحتى وإن كان الطموح إلى استقامة في الأدب يبدو غير معقول في حياة تفتقد إلى الاستقامة، فإن المقاومة تبقى مشروعة في هذا المجال الحيوي المهدد بسخاء المانحين شرقا وغربا، شرقا بالجوائز ووعد الدراما وغربا بشرط "التصهين" الذي أصبح جواز عرب الكتابة الطامحين إلى اعتراف عالمي والذين أصبحوا يجدون الأنصار الصغار بين الكتاب والصحافيين الراغبين في الظهور في المشهد، كتاب يشتمون أنفسهم في مذابح الإعلام الفرنسي ويقدمون طقوس الولاء لفيلسوف النقاء وأتباعه من حراس المعبد في بلاد الحرية.
سليم بوفنداسة