الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق لـ 20 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

لا تقف معي طويلا

يمسح الزقاق الطويل بتوجّس و يعتذر: تجنّبت مهاتفتك لئلا أسبب لك أذى، إنهم يلاحقون حتى صوتي، صاروا يحاولون معرفة ما أفكر فيه. لا تهاتفني ولا تقف معي طويلا، يقول لك، ثم يمسك بيدك ليمنعك من الذهاب. ازداد سعارهم هذه الأيام، لا أدري ماذا يريدون.
يرتفع منسوب الغضب في ملامحه التي تحدت الزمن: وجه بربري جرت فيه دماء الرومان وعينان واسعتان تميلان إلى الخضرة صباحا وتصيران بنيتين مع المغيب ولسان يستطيب الفرنسية في المرح والغضب مع فواصل هجينة تغرف من قاموس الأجداد.
وقوفا يستعيد التاريخ وانعطافاته الرهيبة. يستعيد الشخوص كندامى برعاية خيال يسند الوقائع. يستعيد الأحداث السحيقة كأنها جرت البارحة ببراعة سارد يستعين بموهبته في التلفيق لإخفاء فجوات الذاكرة. يعيد توزيع الأدوار والبطولات وفق روايته تصحيحا لحيف ارتكبه الرواة عن قصد أو عن خنوع لمتدبري أدوار الصف الأول في حكاية يتدافع أبطالها ابتغاء المجد.
ألف الشخوص المتقاتلة في كتب التاريخ  وألفته فصار يقول كنّا وهو  يفصّل حادثة و يمسك بيدك كي يثنيك عن ذهاب محتمل قبل أن ينهي سرد الحكاية.
رياح مختلفة هبّت على الزقاق لكنه ظل صامدا، لم يتغيرّ كما يتغير الناس في المواسم، لم يجار غير هواه، لكن الجسد بدأ يخونه وبدأ الأطباء يحذرونه مما يشتهي فيلعنهم ويراجع مقولاتهم استنادا إلى معارفه في علوم الأحياء ونظرياته التي تقف على محدودية الطب. صارت خطواته شحيحة في الشارع لكن صوته لازال قاسيا كما هو ووجهه لازال يمنح الأمان كوجه أب لا يجاهر بما يختزن قلبه الكبير، ورسائله القصيرة لازالت تشير إلى شاعر أخطأ وجهته ومشى في حكاية لا تشبهه.
لم يتوقف الجسد عن إرسال الإشارات الحمراء ولم يعبأ هو بتسرب الزمن كتسرب الماء أسفل العمارات ساحبا معه الأرض تحت الأساسات، ولم ينتبه إلى أنه لم يعد يستطيع مسح الزقاق بنظراته المرتابة حتى وهو يستعين بحزمة من النظارات يعلق بعضها في رقبته ويخفي البقية في المحفظة الجلدية التي لا يتخلى عنها أبدا. لم ينتبه إلى أن التاريخ هكذا: يمنحك الفرصة لتقول ما تشاء ثم يطحنك مع قمحه بقسوة إن أنت دخلت رحاه.
في مستهل الساعة الثانية لوقوفكما، يمسك يدك ويقول: لنتجنب الهاتف. لنتجنب الوقوف في الزقاق، إنهم لا يتأخرون عن معاينة الهواء الذي أتنفسه.

سليم بوفنداسة

 

المزيد من الأعمدة

المُنمركون !

يصعبُ توقّع ما ستكون عليه الحياة بعد سنوات قليلة، نتيجة التدخّل المفرط للتكنولوجيا فيها، الذي لا...

  • 18 نوفمبر 2024
لا تلوموا أسامة!

يطرحُ الإقبال "غير المتوقّع" على الكاتب السعودي أسامة المسلم في صالون الجزائر الدولي للكتاب،...

  • 11 نوفمبر 2024
«لأسبابٍ سياسيّة» !

قبل سويعات من الكشف عن الفائز بجائزة الغونكور، أمس، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن ناشرٍ قوله، إن...

  • 04 نوفمبر 2024
الصّورة و النّص

عاش كاتب ياسين حياةً قليلة وبسيطة، عانى فيها من "سوء الفهم" و الأسطرة، فضلا عن الجدل الذي لم يفتر...

  • 28 أكتوير 2024
المُستريحون

تُخفي الفرحةُ بموت أحدٍ، حالة قهرٍ عاشها الفَرِحُ في وجود الرّاحل الذي حقّقت ميتتُه زوال غمٍّ،...

  • 21 أكتوير 2024
طفولــة

سليم بوفنداسة ينشغلُ عددٌ غير قليل من الجزائريين بنظرة الآخر التي تتحوّل إلى مصدر فخرٍ أو سبب...

  • 15 أكتوير 2024
ضرورة الفرز

سليم بوفنداسة لا يواجه الأدب الجزائري مشاكل في التلقي فحسب بل يواجه أيضًا مشاكل في الكتابة...

  • 01 أكتوير 2024
سُقــــوط

سليم بوفنداسة فرضت ثقافة السّوق التي تهيمن على عالمنا المعاصر نمطًا جديدًا من النّخب، تنتجه...

  • 24 سبتمبر 2024
حارةُ المُؤثرين

هل تستطيعُ وسائطُ التّواصل الاجتماعيّ حمل الخِطاب الثقافيّ، وهل يسلمُ، في حال استخدامها من الخِفّة التي تفرضها...

  • 17 سبتمبر 2024
المهيمنُ لا يتحرّج

لا يستريحُ القتلةُ في الصيّفِ، فكلّ الفصول مُناسبة لإراقة الدم، ولعلّهم نجحوا في تحويل المقتلة...

  • 29 جويلية 2024
كرمٌ مُعلن

يمكن اعتبار الاحتفاء بالناجحين علامة صحيّة، لما في ذلك من تقديرٍ للعلم ومُحصّليه، شرط أن يكون...

  • 22 جويلية 2024
محنة الرواية!

تعرّضت الكاتبة إنعام بيّوض إلى حملة تشهير بالغة السوء على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد نشر صوّر...

  • 15 جويلية 2024
محاذير الفرح!

أثار الفرح "المبالغ فيه" بالنّجاح في مختلف امتحانات نهاية السنة، الجدل بين مناصرين للحقّ في...

  • 01 جويلية 2024
«ترندينغ»

تكفّلت مواقع التواصل الاجتماعي بترتيب اهتمامات "الرأي العام"، مُنهية بذلك احتكار وسائل الإعلام...

  • 24 جوان 2024
سِرُّ مالك!

بقدر الدهشة التي تخلّفها جُملته، بقدر الحسرة التي ينتهي إليها قارئه، حسرة على عدم اكتمال قصّة وعلى الصّمت...

  • 03 جوان 2024
«الطريق»

توفر الوسائط التكنولوجيّة "حياةً جديدةً" للإبداع، من خلال القنوات التي تفتحها مع المتلقّي، مختصرةً الجهد والوقت...

  • 27 ماي 2024
الفيلسوف متوحشا

أصاب الحراك الطلّابي في الغرب، الفيلسوف الفرنسي الصهيوني الهوى ألان فينكلكروت بالرّعب، إلى درجة...

  • 20 ماي 2024
الخروج من حُجرة الكتابة

خرج بول أوستر من "حجرة الكتابة" تاركًا أبطاله لمصائرهم الغامضة وشعبًا يتيمًا في مختلف اللّغات، هو...

  • 06 ماي 2024
قطارُ الباطل

سلّطت الاحتجاجاتُ الطلابيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة الضوء على هيمنة اللّوبي الصهيوني على...

  • 29 أفريل 2024
صعلكة

  أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي...

  • 23 أفريل 2024
Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com