أنا أيضا لم أعد أحتمل مروركم بوجوه عابسة و أسماء سريعة الزوال، ليس لي ما أتبادله معكم سوى هذا الصمت العابر للسنوات الذي أطلقه. لا أنتظر منكم شيئا، لأنكم غرباء مثلي ومنفيون في طباع صماء وباردة كقلبي. ليس لنا ما نتقاسمه سوى مروركم وانتظاري. أعرف أن بأعماق كل عابر منكم صنما رديفا يعبث بخطواته القليلة، فأشفق: تتوهمون أنكم تسيرون لكنكم تدورون حول أنفسكم منذ مئات السنين. وأعرف أن الرديف تمكّن مُذ عطّل قدرتكم على الانتباه.
أنا أيضا ضجِر، لكني لا أعلن ضجري. البوح مذلة يتوسّل صاحبها رأفة من معذّبه. وأنا مكتف بما أنا فيه. ثابت لا تخدعني خطوة كاذبة، لكنني أسمع وقع الحوافر ووقع الدماء وقهقهات الأقوياء تحملها الرياح ، أسمع خطب الواثقين وقد تحولت إلى ذكريات مغلفة بالمراثي، أسمع الموت وهو يسوي بين عظيم الشأن وقليله بمنجله الرحيم الذي لا يصدأ، أسمع الرغبات تسيل، أسمع انطفاء الشهوات، أسمع رماد التوثب، أسمع التاريخ يتسلى بتبويب الخيبات وتصنيفها وهو يبتسم ابتسامته القاسية المحايدة .
أنا أيضا لا أبالي، أنضجني الانتظار فصرت أرى الآتي ماضيا، والبشر الذين يدبون عند قدمي موتى يهدرون وقتهم المستقطع في الكلام والعبث (أنا أيضا متُّ لكن خيالا خلاقا أدامني) وتولى الوقت أمر قلبي فأعفاه من الألم.
أنا أيضا رأيت نملا جديدا يسكنُ المدينة بعد صمت النمل القديم، رأيت الكذب في الشوارع، رأيت الحب معذبا بسوء تقدير أحواله، رأيت الباطل معتدا والحق غير مبال، رأيت كيف يمد الحقد الأسود جذورا جديدة ليحتال على مقتلعيه، ورأيت كيف تغيّر الأيدي الرايات، وكيف تهيّج كلمات لا معنى لها جموعا تبحث عن هواء لتنتفخ، رأيت كيف تترهّل الحصون وتتداعى والأسوار، ورأيت صبر الماء على الأساسات.
أنا أيضا رأيت ما يكفي لأصرخ فيكم وأنتم تعبرون درب الخديعة مسرنمين: ماذا تفعلون هنا، لكني أحجمت إذ تذكرت طبعي و أخلاقي ككائن صموت، أنا أيضا أخاف، أخاف – مثلا- إن أنا صرخت فيكم أن يلائم طبعي طبعكم فأصير لكم شبيها، أخاف أن تضيّع روحي ميكانيكها فأتهجى مثلكم في خطوتي تعاليم صنمي.
منتهى الحال
كاد التمثال أن يصرخ في العابرين: ماذا تفعلون هنا، يا أصدقائي الموتى؟
لكنه تذكر طبعه فأحجم ولاذ بالصمت الذي يديمه.
سليم بوفنداسة