لم يكتف بالفضاء الواسع الذي مكنه منه خيال الإنسيّ ولا بالسلطات المطلقة التي اختلقها له. لم يكتف بمنازعة الرقاة على جميلات يريد هو أن ينام في أعماقهن ويريدون صدّه لحاجة في أعماقهم. لم يكتف بالمرح في البيوت المهجورة والشعاب والوديان، وها هو يقتحم الهواتف النقالة ويروّع صغارنا، وها هو يتسلّل إلى نشرات الأخبار والصفحات الأولى للجرائد!
يحتاج الجنّ إلى مساءلة لأنه أخلّ بالمواثيق وخرج من سرية هي خاصيته و بات يمارس نشاطات علنية تستدعي التغطية الإعلامية، إلى درجة أن زملاء في باتنة سجلوا قيامه بتحريك طاولات التلاميذ وحرق مصابيح حجرات الدراسة، وفق ما نقلوه في تقارير إخبارية متلفزة، وهي سلوكات يعاقب عليها القانون وتضع المشرّع في ورطة لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار الأفعال التي يقوم بها شركاؤنا غير المرئيين.
أجل، تتطلب تحركات الجن تحركا مضادا من أهل العقل في هذا البلد، ليس لإيذائه، ولكن لإخراجه من حياتنا والتخفيف من أضراره التي ارتفعت حصيلتها في السنوات الأخيرة بشكل بات يهدّد السلامة العقلية للجزائريين.
وقد تواجه عملية «إخراج الجن» صعوبات موضوعية، نظرا لكثـرة شركائه المرئيين وحلفائه من شيوخ ورقاة وأصحاب قنوات وصحف وأساتذة يحوزون على «حصرية» التعامل معه والتحدث باسمه ومكنهم ذلك من فتح عيادات يرتادها نجوم مجتمع ويدافعون عنها بشراسة ( انظر قصة بلحمر) وكسب زبائن نوعيين وقراء ومشاهدين كرام يصل كرمهم أحيانا إلى درجة يصعب تصديقها، ودفعهم نجاحهم في الواقع إلى الاستثمار في العالم الافتراضي بنشر الجن في التكنولوجيا بشكل يعزّز مكانته ومكانتهم في صفقة مربحة مع المستقبل.
وقد يكون الردع غير كاف لمواجهة الظاهرة ما دام المناخ العام يساعد على انتشار الجن وغيره من الكائنات غير الظاهرة وغير الموجودة أصلا في وقت يجري فيه إنكار العقل وتسفيهه و تحويل الإنسان الظاهر إلى ضمير مستتر لا تقدير له وقبوله بذلك طمعا في أمان يجود به التواري ومزايا يغدق بها الامحاء.
يبدأ إبعاد الجن بتعطيل «الميكانيكا» التي تشيعه وتشيع الخرافة بمنع وكلائه من النشاط و تجريدهم من المنابر الخطيرة التي يحتلونها حاليا، وتنتهي قصة الجن ببناء إنسان غير قابل «للركوب».
سليم بوفنداسة