صدم سقوط الحزبين الرئيسيين في فرنسا في الانتخابات الرئاسية قطاعا من المحلّلين الذين تأخر إيمانهم بالجمهورية الخامسة، واستصغروا الشاب ماكرون الذي كانوا يرون فيه مجرد ظاهرة إعلامية سيبطلها اختبار الواقع حتى وإن باتوا على اقتناع بأن وجود لوبان مع العابر إلى الدور الثاني أمر واقع.
قدماء المحلّلين أصبحوا يتحدثون عن فراغ هائل في الحياة العامة، لأن المرشح الذي يدعمه الجميع اليوم في مواجهة إعصار اليمين المتطرف لا يملك برنامجا واضحا ويقول الشيء ونقيضه، وفرنسا برأيهم تحتاج إلى «سياسيين» ينتجون الأفكار ويثيرون الجدل في وسائل الإعلام بشأن التحولات الاجتماعية التي تشهدها البلاد وعلى رأسها مشكلة الهوية التي تغذي حربا أهلية غير معلنة وترفع في كل مرة أسهم “الجبهة الوطنية” بدليل أن توقعات نسبة فوز ماكرون في الدور الثاني توقفت عند 62 بالمئة، ما يعني أن المصوتين للوبان في ارتفاع من انتخابات إلى أخرى.
والمؤكد أن ثمة أشياء غير السياسة باتت تدفع ببعض الوجوه إلى واجهة المشهد السياسي في الغرب، في مقدمتها التواصل خارج الأطر التقليدية ممثلة في الأحزاب مثلما بدأت المجتمعات تتشبع من الانفتاح وتتوجه نحو انغلاق هوياتي ليس ظهور المتطرفين سوى تعبير عنه.
و حتى وإن بدا أننا لا نصاب بالعدوى من التغييرات التي يشهدها العالم ودول جوار كفرنسا ما دامت طبقتنا السياسية لا تحتاج إلى تغيير الوجوه والخطب، فإن واقعا جديدا بدأ يتشكل بسبب عزوف “الشباب المثقف” عن ممارسة السياسة وتهافت الشيوخ وأصحاب المال، وبمرور الوقت سنواجه ندرة في الكوادر السياسية، خصوصا وأن الأحزاب تخلت عن دورها التكويني مثلما كفت الجامعات عن “إنتاج” طلبة مسيسين، وقد استهوى هذا الوضع سياسيين مخضرمين لا يجدون حرجا في القول، أمهلنا إلى يوم يبعثون.
و بالطبع سيتقدم المقاولون أكثـر فأكثـر نحو مراكز صنع القرار وتتحول الحياة العامة إلى ما يشبه السوق، ويصبح الأمر الواقع بديلا للإقناع ويخفت النقاش و تختفي الأفكار ويصير الاقتصاد هو المحرك الأول للحياة و يصير الجدل المثار بدائيا يرتبط بمدى الانتفاع أو الحرمان.
أجل، السياسة تموت عندنا أيضا، لكننا لا ننتبه إلى ذلك.
سليم بوفنداسة