أطلقت شركة سونطراك مسابقة وطنية مفتوحة لتوظيف خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس الأكاديمية في المجالات التقنية، بالشراكة مع الوكالة الوطنية للتشغيل. وبحسب ما...
وقع رئيس الجمهورية السيد، عبد المجيد تبون، أمس خلال اجتماع مجلس الوزراء على قانون المالية لسنة 2025 بمقر رئاسة الجمهورية بحضور أعضاء الحكومة، ورئيسي غرفتي...
• إيجاد الحلول للانشغالات المطروحة بالسرعة المطلوبة والاحترافية الضرورية • الشروع بالسرعة القصوى في التنفيذ الميداني • على الحكومة صب كل المجهودات لتحقيق راحة...
شرع الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة، ابتداء من يوم أمس الأحد، في زيارة رسمية إلى...
أمارس الأدب لأمنح العالم إنسانيتي و كل ما كتبت تمارين تسخينية
يؤكد الكاتب عبد الرزاق بوكبة أن كلّ ما كتبه لحد الآن مجرد تمارين تسخينية لنصوص قادمة، و يكشف للنصر في هذا الحوار عن جوانب من حياته داخل النص وخارجه، هو الذي نشط في أكثر من جبهة وتنقل بين الأجناس الأدبية والوظائف، قبل أن يعود إلى قريته الأولى ويعلن انتصاره للكتابة دون سواها.
حاوره: سليم بوفنداسة
يمنح عبد الرزاق بوكبة نفسه حريّة التنقل بين «الأجناس». ما الذي يدفعك إلى هذه «الهجرات»؟ وهل تعتقد أنها خدمت تجربتك؟
أشبه خائضا في سفر طويل. فهو ينطلق بزاد معيّن، ثمّ يجد نفسه، بعد نفاده، يأكل كلّ ما يقع تحت يده، بما في ذلك الأطعمة التي كبر على النّفور منها. لقد بدأت شاعرا ثمّ ضاقت القصيدة على بعض مفاصل التجربة الحياتية التي خضتها، فلم تعد قادرة على رصد ثراءاتها، وهي نفسها أحالتني على أجناس أخرى. أنا خرّيج بيئة تتولّى فيها المرأة تزويج رجلها بغيرها حين تعجز عن الإنجاب أو الخدمة، وتنبري عفويا لتربية أولاده من ضرّتها، وهذا ما فعلته القصيدة معي. استدعت بنفسها القصّة القصيرة والرواية والسّيرة الذاتية والمسرح والمقال وطلبت منهم أن يتولّوا شغفي الجديد وهواجسي الجديدة من غير أن تغادر السّاحة. هل هناك نصّ سردي كتبته لا تحضر فيه القصيدة مثل عرّابة البيت التي يحترمها الجميع؟ ثمّ إنها هي نفسها تفتحت على أشكال مختلفة، فكان أن كتبتُ ثلاث تجارب زجلية.
قضيت سنواتي في الحلم بالنجوم ونسيت أن أنجز سقفا!
- الذين عايشوا تجربتك يؤكدون أنّك تكتب بيسر، كأن تكتب مقالا في مقهى في لحظات أو تكتب نصا في مكان صاخب، كيف أصابك مسّ التدوين وكيف تمرّنت على «رد الفعل المكتوب» وأنت القادم من محيط يتميّز بثقافة شفوية، إلى عالم يسرق الوقت والأعمار؟
حين احتفلت في نوفمبر الماضي بعيد ميلادي الأربعين اكتشفت أمرا لم أدر هل أضحك له أم أبكي هو أنني قضيت سنواتي في الحلم بالنجوم ونسيت أن أنجز سقفا! هذا التفرّغ التّام للطموح الإبداعي جعلني أبذل مكابدات كثيرة للوصول إلى هذه المرونة التي أشرت إليها في السّؤال. ضف إلى ذلك انفتاحي الذي يدهشني أنا نفسي على التجارب والذهنيات والنفسيات والوجوه والاتجاهات بالموازاة مع قراءات واعية و براغماتية، لما هو فكري وتأمّلي خاصّة. ممّا جعلني أتحرّر من الكوابح التي ورثتها عن بيئتي الأولى والتي تدجّج كائنها منذ صغره بالنّهي عن الخروج من دائرات التحفّظ، وأبرمج نفسي على مقام يحفظ الإنسانية ولا يتحفظ منها.
- «أولاد جحيش»، هل هي ماكوندو عبد الرزاق بوكبة؟ تبدو الندوب التي تركتها العاصمة أعمق، وتبدو القرية فردوسا مفقودا يخدم الخيال في روايته للعالم؟
قد تكون المدن الكثيرة ثقّفت السّارد في ماركيز، لكن ماكوندو زرعت فيه نواة السّرد الأولى. وعودته إليها حتى وهو في صدارة السرد العالمي ليست عودة نكوص بل عودة استسقاء. نعود إلى مشاتلنا الأولى لنتزوّد ببذور جديدة، ذلك أن معركة الكتابة الأدبية إنسانية وليست أيديولوجية، وهي بهذا تحتاج إلى خزّان إنساني يشكّل لها منصة انطلاق في كل مرة. الكاتب الذي لا يعود إلى منصة انطلاقه ليتزوّد بالوقود معرّض للانفجار في أية لحظة. هنا تجدر الإشارة إلى أنني لم أمارس فعل التبرّم من الجزائر العاصمة/ المدينة، لا في نصوصي ولا في منشوراتي الفيسبوكية ولا في مجالسي، ليس انسجامًا مع انتصاري العفوي لخطابي الحداثي الذي يقتضي بالضرورة الاحتفاء بأبجديات المدينة فقط، بل لأنّ الفضاء المديني حاجة سردية أيضا.
- تبدو حياتك مُعلنة من خلال نشاطك على شبكات التواصل الاجتماعي، لماذا كلّ هذه الشفافية؟
في العادة لا نسأل الدّاخل إلى البحر للسباحة أو الحمّام للاستحمام لماذا كلّ هذا التعرّي؟ لأننا حينها نقفز على معطى رغبته في التطهر. أنا لست شفّافا بإقدامي على إعلان الكثير من تفاصيل حياتي، بل أنا منسجم مع لحظتي التي يتعيّن علي أن أعيشها بصدق وعمق قبل أن تصبح ذاكرة غير قابلة للاسترجاع إلا من خلال الحلم. ما قيمة الكتابة إن لم تحررني من مفاهيم مترهلة لـ»العيب»؟ هل يمكن أن ألامس ناصية شجرة الكتابة وأنا أعتبر الحديث عن بيتي من الداخل أو عن حميمياتي عيبا؟ إذا لم أفعل وأنا حي، فسيفعلون ذلك مكاني بعد أن أموت، وقد يشوّهون ويضيفون ويحذفون خارج النّزاهة. أنا لا أكتب أو أتحدّث عن حياتي لأنني شخص مهمّ، بل لأنني عشت تجاربَ ولحظاتٍ إنسانيةً مهمّة، أحبّ أن أشارك غيري فيها. لقد تعلمت من قريتي ألا آكل فاكهة البستان وحدي.
ما قيمة الكتابة إن لم تحرّرني من مفاهيم مترهلة لـ «العيب»؟
- لكنك لم تتجاسر على « العيب» في الروايتين (على جمال النصين الذي لا نقاش فيه) ، كنت تُلمّح دون أن تصرّح (حتى وإن كان ذلك من طباع الفن) وكانت السيرة «مُموهة» إلى درجة أن فرزها يحتاج إلى مشارط وملاقط التحليل النفسي؟ أليست الرواية «المكان» الأنسب لتصفية الحساب مع «العيب»، كما فعل بوجدرة، مثلا؟
حين أدخل بوجدرة الجنسانية إلى الرّواية الجزائرية كانت الخطوة ثورية، بحكم أن الجسد كان تابو فعليا. فقد كان الفتى الجزائري المديني يكتشف جسده في بيت البغاء، فيما كان الفتى الرّيفي يفعل ذلك من خلال الحيوانات! فهل أنا أعيش اللحظة نفسها حتى يكون تعاطيَّ مع الجنس وفق المنطلق نفسه؟ إنّ المشاهد الجنسية التي كانت تعدّ حالة سحرية داخل الرّواية في ذاك الزمن باتت حالة عادية ومتاحة، في الواقع وفي المواقع، وكتابتها كما هي لم تعد دليلا على الجرأة وتكسير أحد أضلاع ما يسمى بالثالوث المقدّس، بل بات دليلا على القدامة وتكرار الواقع، وهذه نزعة الرّواية «المتفاعلة» لا «الرّواية» الفاعلة.
إنّ معياري في استحضار الجنس وفي استبعاده داخل مشهدي السّردي هو الحاجة الفنّية والإنسانية لذلك. فلا فرق عندي بين من يستحضره لدواع إباحية صرفة، ومن يستبعده لدواع يراها أخلاقية رغم أن المقام يستدعيه. أرى الكاتب الذي يوظّف الجنس من غير دواعيه الفنية والإنسانية داخل المفصل السّردي، كمن يكشف عورته أمام النّاس ليقال عنه إنه شجاع.
لقد قلت للأستاذ بوجدرة يوما إنه عليه ألا يكتفي بالهاتف الثّابت. وأن يقتني هاتفا ذكيا لتصله فيديوهات ومنشورات يتبادلها الجيل الجديد بصفتها حالة عادية، فيما استمرّ هو يكتبها بصفتها حالة استثنائية.
الكاتب الذي يوظف الجنس من غير دواع فنية كمن يكشف عورته أمام الناس ليقال عنه أنه شجاع
لا أقصد الجنس فقط ولكن استباحة الحياة الشخصية في الرواية ؟
أنت نفسك قلت إنني أستبيح حياتي الشخصية في فيسبوك. بما يعني أنني لا أملك موقفا أخلاقيا أو موقفا يمليه التحفّظ أو التوجّس أو الخوف. غير أن استباحة الحياة الشخصية للشخوص الروائيين تصبح عبئا سرديا أو تسلّلا روائيا إذا لم تخضع لوعي حادّ يحدّد الجرعة بحسب المقام السّردي في المفصل السردي المحدّد، وبحسب طبيعة الرواية التي أنا بصدد كتابتها. فالرواية مدارس وحساسيات، وما يقتضيه نوع روائي من جرعة الاستباحة قد يشترط نوع آخر ضعفه أو ثلثيه. الكتابة السردية دوزنة/ وعي، وليست دندنة/ بوح. هنا، أبادر إلى الاعتراف بأن ما باتت عليه رؤيتي للكتابة الرّوائية من نضج، كثمرة للاحتكاك والقراءات البراغماتية للمتون الجادّة وتعميق التجربة الحياتية تجاوزت ما كتبته سابقا من متون. وهو ما جعلني أفكر في العودة إليها على ضوء هذه المستجدّات ومراجعتها، قبل نشرها عربيا، إذ لا تنس أنها نشرت في طبعات جزائرية محدودة.
- هل تذكر «هلال البرج»؟ وما الذي يمكن أن تقول له اليوم لو رمته المشيئات في طريقك؟
هل تقصد ذلك الاسم المستعار الذي حملته في بداياتي الأدبية ما بين سنتي 1996 و2000 وعُرفت به من خلال بعض الملتقيات التي شاركتُ فيها بدعوة من «رابطة إبداع» والنصوص التي نشرتها في بعض الملاحق الأدبية مثل ملحق «آفاق» للأستاذ الطاهر يحياوي ذكره الله بخير، وكان ذا نزعة إخوانية؟ ثم تخلّيت عنه تماما بمجرد دخولي إلى الفضاء العاصمي منتصف عام 2002؟ سأرحّب به وأعانقه وأدعوه إلى فضاءاتي الجديدة، فإن لم يقبلها وراح يتعسّف في حقي، فسأتخلى عنه فورا. أنا لا أمارس النسيان اللئيم كما لا أمارس الوفاء السّاذج.
- اشتغلت في التنشيط الثقافي و في الصحافة بحماس المناضل إلى درجة العمل دون مقابل، هل مازال عبد الرزاق بوكبة يؤمن بالنضال الثقافي أم اقتنع أن على الكاتب الاكتفاء بنصّه، لأنه خير وأبقى، ولأن «تغيير الواقع» يحتاج إلى أدوات أخرى قد لا تكون بين أدوات الكاتب؟
لم يحدث أن ورّطت نصي الأدبي، باستثناء المقالات، في مسعاي النّضالي الثّقافي. ذلك أن روح الكتابة الأدبية كما أفهمها ترفض ذلك. إنها حقل مختلف تماما. غير أنني استفدت من تجاربي النضالية باعتبارها تجارب إنسانية أيضا في فهم لحظتي الجزائرية، ممّا منحني نضجا سيساعدني مستقبلا في كتابة نصوص سردية تنطلق من رصد وتأمّل ومعايشة لا من خيالات. لقد فصّلت ذلك في «بوصلة التّيه» الشطر الثّاني من كتابي الجديد «يدان لثلاث بنات». لست نادما على كل خطوة خطوتها في طريق النّضال الثقافي. صحيح أنه أفقدني كثيرا من الرّيش لكنه منحني أيضا كثيرا من التّحليق.
لقد تعاملت مع كلّ المؤسسات التي اشتغلت فيها، مثل اتحاد الكتاب والمكتبة الوطنية والإذاعة والتلفزيون والمسرح الوطني والوكالة الوطنية للنشر والإشهار والبرلمان بصفتها فضاءات روائية، وخرجت منها بتجارب و»نضوجات» أحتفظ بها بصفتها مادّة خامّا لمستقبلي السّردي، بعيدا جدّا عن منطق تصفية الحسابات الشّخصية عن طريق الرواية. فالرواية تحاكم المراحل لا الأشخاص.
وأنت بذلك لم تستقر في عمل، تهرب سريعا من الوظائف، هل أنت ضد الوظيفة؟
هل تدري أن علاقتي بالأدب بدأت بهروبي من إحدى الوظائف العائلية؟ إذ كلّفني أبي يوما بأن أحصد أرضا، فهربت من الأمر إلى وادي الدّفلى مصطحبا معي نخبة من الكتب هي ما برمجني على شغف الكتابة. ولا زلت حتى اليوم أمارس الهروب نفسه. مرّة أستقيل ومرّة أقال، لأجدني في الحالتين كلتيهما قريبا من حرّيتي التي لم أخنها كثيرا.
الكاتب الذي لا يعود إلى منصة انطلاقه ليتزوّد بالوقود معرّض للانفجار في أية لحظة
- في سرودك القصيرة وفي تدويناتك على الفايسبوك نعثـر على هياكل روايات، السائق بوجمعة في «بوصلة التيه» مثلا، ألا ترشحه الأهوال التي عاش إلى بطولة مُطلقة في نص روائي؟
ورثت من تجربة الرّعي في صغري عادةَ أن أبني كوخا في كلّ بقعة أحلّ فيها بقطيعي، لأجدني بعد أن يحول الحول أملك عدّة «بيوت» ولا أملك بيتا في الوقت نفسه. والحديث قياس على الرواية. أملك عشرات الروايات ولا أملك رواية واحدة. وهو المقام الذي جعلني لا أحقّق تراكما روائيا حققه بعض من شرعوا في الكتابة معي أو بعدي. هل تدري لماذا عدت إلى مسقط رأسي بعد ستة عشر عاما من التجربة العاصمية؟ لأحقق هذا التراكم. وسأحققه. فكلّ ما كتبته من قبل، أحد عشر كتابا، هي في ذهني مجرّد تمارين تسخينية. لقد كنت أكتب لأستمتع تارة ولأتفادى موتي تارة أخرى، وآن لي أن أكتب كي أحفر نهرا جديدا.
- تتولى حاليا إدارة نشر دار «الجزائر تقرأ». ما هي خطتك لإلقاء الكتاب في محيط يقلّ فيه الاهتمام به؟
كنت شاهدا على حلم صاحب الدّار قادة الزّاوي في أن يبعث مشروعا مختلفا في عالم النشر. جاء من سيدي بلعبّاس إلى الجزائر العاصمة أعزلا إلا من حلمه هذا. ثم سرعان ما انهار أمام الواقع المر والمغلق، فأرسل لي رسالة في موقع «أصوات الشمال» يعتذر لي فيها عن قرار رفع الرّاية البيضاء والعودة إلى البيت. بعد مدّة قصيرة عاد من جديد إلى العاصمة وأطلق مشروعه، الذي كان ثمرة لموقع هو اليوم أكبر موقع للقراءة في الجزائر. مراهنا على الشباب والأسماء الجديدة، وقد حدث في معرض الكتاب الماضي ما يستدعي التأمّل والانتباه، من ذلك أن معظم الطبعات نفدت. ونحن سنبني على هذه الأرضية لتوسيع المشروع والذهاب به إلى مقام مختلف وفق أفكار ورؤى وأساليب جديدة ومختلفة. سنجتهد لتكون للجزائر دار نشر كبيرة بعدد قرّائها لا بعدد إصداراتها فقط.
- ما هو حافزك للإشراف على ولادة «كتب الآخرين»؟
حافز ذاتي هو أن أساعد غيري على أن يعيشوا الفرحة التي عشتها عام 2004 حين صدر كتابي الأوّل «من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟» في طبعة مشتركة بين المكتبة الوطنية الجزائرية ودار البرزخ، وحافز أخلاقي يتعلّق بعلاقتي بالكتابة نفسها، حيث أستحي أن أواجه البياض لأكتب نصا من غير أن أخدم كاتبا مبدعا وحقيقيا مع قدرتي على ذلك. إن هناك طقسا ممتعا أمارسه في معارض الكتاب في الجزائر وخارجها، وأنا هنا أكشف عنه للمرّة الأولى، هو أن أقف أمام الكتب التي كنت سببا بأيّ شكل من الأشكال في أن تنشر، فأبتسم لها وتبتسم لي.
- كتاب عن «البنات»، هل هو بيان ضد ثقافة «الوأد»، أم هو إعلان عن أبوة مختلفة؟
لم أنتبه إلى دوافعي في إنجاز التّجربة حتى نشرت وتلقّيت هذا السّؤال مرّات عديدة. ربّما تفاعلا مع استحسان من تابعها في فيسبوك، إذ هي تجربة فيسوكية بامتياز، وربما لأنني عشت وحيد أمّي وأبي ووجدت في بناتي تعويضا لي عن عقدة الأخ الصّغير التي كبرت معها. ألم تلاحظ أن معظم أصدقائي ممّن هم أصغر منّي؟ وربّما هي ثمرة لانتقامي جماليا من الزواج والأبوّة من الزّاوية التي تجعلهما عائقا أمام الكتابة بصفتها مشروعا يتطلّب التّفرّغ، فوظّفتهما في ما حاولا منعي منه: الكتابة. وربما كان ذلك رغبة مني في أن أخطو خطوة في حقل لم يسبقني إليه الكثير هو أدب البيت.
- تكتب بالعربية، وأنت من أبرز من يكتبون بها في الجزائر، ألا تشعر أحيانا باليتم، ولماذا تُحمّل هذه اللّغة في نظرك الكثير من الشّرور في الفضاء الجزائري، ولماذا يعامل الكاتب بالعربية ككاتب من الدرجة الثانية مقارنة مع كاتب بالفرنسية، حتى وإن كانت كتابات الثاني بسيطة حتى لا نستدعي مصطلح الرداءة إلى فضائنا هذا؟
لست مسؤولا عن اختلالات المشهد العام الذي أنا فرد فيه. ما أنا مسؤول عنه وألزم به نفسي أن أكتب نصّا برؤية كونية ولغة لا تحيل إلا علي ومعمار مفتوح على التجريب في كلّ تجربة أباشرها. فالجودة والرداءة معطيان ليسا حكرا على جيل أو لغة أو مشهد، فأنا لا أخضع لعقدة اللغة الأجنبية ولا لعقدة اللغة «الوطنية» قبولا أو استبعادا، ذلك أن رهاني الإبداعي والإنساني يتعلّق بالجوهر لا بالقشرة. فحين تكون الكتابة حفرا لا تسويةً للتراب تكون القشرة أوّل ما تخرّبه.
أوغلنا في الانتباه إلى شعرية النص ولم ننتبه إلى شعرية الحياة
- كثيرا ما يشتكي الكتّاب في الجزائر من قلة الاهتمام والتقدير، وكثيرا ما يتصرّفون كنجوم في مجتمع لا يعترف بنجومية الكاتب. ماذا يريد بوكبة الكاتب، هل تنشد اعترافا أم تكتب فحسب؟
انتبهت مبكّرا في خرجات الصّيد البرّي التي كنت أرافق فيها أبي إلى أنّ الأرنب كان يتفادى البندقية والطّاروس أي موته بتكسير مسار هربه، فهو لا يعدو وفق خطّ مستقيم أبدا. ولطالما تعاطيت الكتابة بصفتها تحايلا على الموت/ الخطّ المستقيم/ النّمطية/ العادي/ المستهلك/ المبتذل/ العابر/ المتفق عليه. وهو مقام نقل هاجسي من نشدان أن يُهتمّ بي إلى نشدان أن أعيش، فلم يعد يُؤثّر في «مورالي» أن أُقصى أو أُنسى أو أُهمّش أو يُكذب علي.
- على ذكر «المورال» نكتشف في نصوصك و تدويناتك، «بلاغة جزائرية» تجود على «الدارج» بثوب «الفصاحة»، هل يتعلّق الأمر بحاجة فنية أم بتوجه مقصود لكاتب لا يداري هويته؟
تستعمل زوجتي أحيانا في ما تطبخ كاتالوغا. وتطبخ أمّي أحيانا فلا تستعمل غير روحها وشغفها ورغبتها في أن تمتع من تحبّ في دوزنة أطباقها. النّتيجة أن طبخاتها تطلع ألذَّ حتى أننا نتجاوز معها فعل الأكل إلى فعل لحس الأصابع، والحديث قياس على اللغة التي تصبح عبئا على الكتابة والقراءة معا إذا اعتمدت على القاموس والنّحو الموروثين فقط، ولم تخلق بلاغتها من اللّحظة المعيشة أيضا. وهذا ما فعله كتاب ألف ليلة وليلة العظيم: وضع بلاغة قريش في سلّة الإهمال، وكتب نفسه وفق بلاغة اللحظة الجديدة التي أثمرها انخراط الفضاء العربي يومها في بنيات مستحدثة لم تكن مسمّاة في القاموس الموروث، فصارت لدينا لغتان هما لغة المؤسسة الفقهية المتحالفة مع المؤسسة الدّينية، ويحرسها المشايخ الذين يبدأ كلامهم بالبسملة التي تعني أن ما يقال كلّه منسوب إلى الله، وفي ذلك نفي لحقّ الإنسان في القول وفق هواه وحاجته ورغباته ونزقه، ولغة الحياة التي ترعاها الحياة نفسها، والأدب الحقيقي يستمدّ بلاغته وشرعيته من الحياة في تحوّلاتها وتجلّياتها المختلفة.
- كيف تصون لغتك؟
بأن أعفيها من التحفّظ في التعبير عن الذّات، فتلك وظيفة لغة الكاتب. ومن العقدة من تبنّيها لمفردات الشّارع إذا كانت أقوى، ومن شجاعتها في الانحياز للبلاغة المغاربية على حساب البلاغة المشرقية التي باتت مؤسسة مهيمنة، فلا تمنح جوائزها وأضواءها وتنويهاتها إلا للمتمشرقين من المغاربيين.
- ترتدي أزياء جزائرية في الجزائر وخارجها، ما رسالتك في ذلك؟
قبل سنوات كنت ألبس ما يتاح، بالنظر إلى عجزي المالي، فيما أصبحت اليوم ألبس وفق ذوقي ومزاجي الشّخصيين. وما أرتديه من أزياء جزائرية هو استمتاع بأناقتها. أنا أستمتع بأناقة اللباس شعبيا كان أم عصريا، وأملك شغفا بمعرفة الموضة في العطور والأزياء والأحذية، انسجاما مع إيماني بألا جدوى من الفنّ إذا لم يوصلنا إلى تذوّق شعرية الأشياء. لقد أوغلنا في الانتباه إلى شعرية النص بحكم كوننا أمّة لغوية، ولم ننتبه أو نثمّن الانتباه إلى شعرية الحياة. أستحي فعلا أن أقترب من اللابتوب لأكتب وما بين أسناني من بقايا الطّعام يكفي لإطعام سرب من الطّيور.
تعاطيت الكتابة بصفتها تحايلا على الموت
- والريشة، هل هي طوطمك؟
تصوّر معاناة كوني أتلقّى يوميا عدّة مرّات هذا السؤال وما يشبهه عن الرّيشة منذ إحدى وثلاثين سنة، وأجد متعة في أن أحتفظ به لنفسي. وسأكشفه في حوارنا هذا للمرّة الأولى. التحقت بالمرعى صغيرا، فوجدته يغلي بعشرات الرعاة والراعيات، فقد كانت الفتاة في قريتي أولاد جحيش وما جاورها من قرى عربية وأمازيغية ترعى حتى إذا خطبت حجبت. وكانت «خ» سيدة المرعى، فتنظّم عرسا يوميا تزوّج فيه رمزيا راعية براع، وفق طقوس رائعة، كأن تدخلهما إلى كوخ مصنوع من عيدان الدّفلى، مصحوبين بالزّغاريد وطلقات البارود. علما أن معظم تلك الزيجات التي حدثت مزاحا باتت حقيقية فيما بعد. ذات مرة، قرّرت «خ» أن تكون هي العروس ويكون رزيق بوكبة الذي هو محدّثك عريسَها. غير أنها عرّتني بعد دخول كوخ الدّفلى ومصّتني مصّ الخوخة النّاضجة، ممّا أرعبني وجعلني أقاوم، فأفرّ من بين يديها إلى حوشنا عاريا، وأخبر أبي بما وقع. هناك اتخذ قرارا لا يقبل النقاش هو أن أنفصل بقطيعي عن المرعى وأرعى منفردا. خلقت لدي تلك العزلة حالة مرعبة من الإحساس بالغربة، فوجدتني أتفاداها عفويا بوضع ريشة فوق قصبة صغيرة، وأستحضر المرعى فيها. إذا كان هناك شخص يستمدّ توازنه من ريشة ويستحضر العالم فيها، فلا يشعر بالخوف أو الغربة أو اليأس أو القلق أو الارتباك فهو أنا.
- أخيرا، ما ذا تريد من الأدب؟
سيصاب أحدنا بالدهشة والصمت إذا سئل عمّا ينتظره من القبلة؟ لأنه مارسها استجابة لحاجة إنسانية عميقة ومبهمة وهروبا من برد ما، ولم يخضعها لمنطق الربح والخسارة. لا أمارس الأدب لأخذ أمر ما من العالم بل لأمنحه ما أرى أنه محتاج إليه مني: إنسانيتي.
س.ب
هكذا عرفته.. إنساناً وفناناً
من الصعب أن تعرف شخصية فنان مبدع بصورة متكاملة، وهذا ما سأقوله عن شخصية عبد الرزاق بوكبة، الذي يحمل شخصية شبيهة تماماً بروح الفن الذي لم يكتمل يوماً في ذهن أو يد فنان.
محمد الأمين بحري
فبوكبة كما عرفته -حتى كتابة هذه الأسطر على الأقل- رجل قدس آلهة الفن التي جُبل على عبادتها منذ ألقت به وليداً في محرابها، وإذ عرف مقام الفن من الحياة، فقد باركته ربة الفنون في وقت لعنت الكثيرين ممن حاولوا العبث مع الإبداع الذي ادعوه، فأزرت بهم على رؤوس الأشهاد، ولا يزال ذكرهم في العالمين لعينا.
لقد سلك بوكبة مساره مستنيراً بقلمه الذي اتخذ له تميمة خشبية تعلوها ريشة غضة ترافقه في حله وترحاله، عادة ما تراه يعبث بها ويداعبها وهو يحدث أحدهم أو حينما يسافر في تأملاته ساهماً. وقد يرى المتوسم في عبد الرزاق بوكبة، مُسحة الفنان والعاشق المتبتل على محياه وسلوكه ونبرة حديثه، ومنجزاته الإبداعية، كأنما يمارس طقساً عشقياً أوحالة إبداعية في كل حركة أو سكون أو حديث، فكان الإعلامي والشاعر والروائي والقصاص ورجل المسرح، والمنشط الثقافي وصديق المثقفين والكتاب الناشئين.
يبقى الأمر الملهم في شخص بوكبة هو غموض الفنان فيه، حالة اللاسكون، والقلق الابداعي الدائب، وعن هذه الحركية في السلوك الثقافي لبوكبة، أذكر أني التقيته في هذه السنة، مرات ثلاث، وكانت ثلاثتها مميزة وشائقة: الأولى في المدية بمناسبة فعاليات المهرجان الوطني للمسرح الفكاهي، حيث كان منشطاً مرحاً للجلسات، بصورة تجعل من تقديمه وتنشيطه للفعاليات؛ حالة فنية بذاتها. وقد علمت أنه قد غافلنا ونحن في المدية وسافر إلى مدينة الجلفة للقاء قرائه، في جلسة تكريمية أعدتها له إحدى الجمعيات النشطة هناك، ليعود بعد يوم إلى المدية وينشط جلسة الاختتام لملتقى الأدب والفكاهة المنظم بالموازاة مع فعاليات مهرجان المسرح الفكاهي، لنرحل معاً من المدية إلى العاصمة، ثم نترافق في الغد إلى تلمسان حيث كنا على موعد ثقافي ثان؛ وهو المعرض الوطني للكتاب. حيث انخطف من بيننا ليلاقي قراءه وجمهوره، في تكريمية نظمتها إحدى الجمعيات هناك، ثم عاد إلى معرض الكتاب ليلقي مداخلة حول تجربة الكتابة لديه، وكانت كلمة ليس فقط حول تجربة أدبية، بل حول تجربة عرفانية، كشف فيها الحُجُب عن ولادة الكاتب فيه، ونزوعه الصوفي في الإبداع، فأصاخ الحاضرون في القاعة والمعرض سمعهم بعد الضجيج. فلا تسمع منهم حتى الهمس.
واللقاء الثالث كان قبل أسابيع بمناسبة المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالعاصمة، حيث صادفته ذات أصبوحة (ولم نكن على موعد)، مفترشاً الأرض يستمع إلى مأساة عائلة مشردة، ويتبارى مع ابنها الأصغر في الإملاء والحساب، يخط معه القلم على كراسة رثة، ويداعب روح الطفولة الشقية في ذلك الصغير، حيثكان منغمساً حد التماهي مع الأسئلة الفضولية لذلك لطفل العصامي المشرد، وهو يباريه الكتابة وقواعد الإملاء والحساب، وتارة أخرى يحاور أمه التي كانت تحكي لعبد الرزاق حكايتها الدامية، فكانت أذنه تصغي إليها وعينه تتابع خربشات طفلها، كنت واقفاً بحيث أراه ولا يراني في إحدى زوايا شارع السكوار بالعاصمة، كنت واقفاً تماماً خلف ظهر عبد الرزاق الإنسان، الذي قلت عنه في نفسي وأنا أشاهد هذه اللوحة الدرامية التي التقطتها من يومياته، يبدو أنه عثر على بطل روائي ما، أو قصة آسرة عن الشقاء البشري، أو نموذج إنساني لا أستبعد أن يبث فيه الحياة نراه في إحدى إبداعاته السردية أو الشعرية القادمة.
تلك بعض القطع المتناثرة التي التقطتها بالمصادفة من شوارع حياة مبدع قلق ومسكون بمآسي البشرية، التي يصغي إليها بعناية المريد الصوفي ويعكف على صهرها في لوحات لا تكاد تترك لنفسه وحياته متسعاً للاهتمام، هكذا هو على بساطة الرحالة شكلاً وتأمل الصوفي روحاً ودماثة الخلق إنسانيا، يعيش الإبداع والفن ويعرف مواطنه في مسالك الحياة، كما صائد الكنوز أو الخيميائي، الذي يطارد مواطن الأسرار، ويقرأ إشارات الحياة بفنه، ليشكل مما اكتشفه في يومه أسطورته الشخصية، على الرغم من أنها إشارات يمر بها الناس كل يوم دون أن يعبأوا بقيمتها. فيما تستوقفه هو، فتناديه المغامرة الإبداعية في كل خطوة، وعند كل إشارة يصادفها، فتستوقفه لتكون مشروع عمل تأليفي محتمل. لذلك كنت قد منحت للفن تعريفاً بفضل مرافقتي اليسيرة مع عبد الرزاق بوكبة إنساناً وفناناً، فقلت بأن الفن الحي هو «ضرب من الإصغاء إلى وجيب اللحظةوالحياة».والفنان هو الذي ينطق بلسانيكلما قرأت له عملاً، والحياة عند بوكبة لوحات يعاشر فيها الفنان كائناته في حلول تام. فلا تكاد تميز تخوم الفني عن الواقعي ولا الذات عن الموضوع في حياته كما أو فنه.
كيف جئت إلى الكتابة السّردية؟
[1]
أقرّ لأكثرَ من صوتٍ في حياتي، بالفضل في برمجتي على الكتابة السّردية، أنا الذي كنت ذا طموحٍ شعري صرف. ويأتي سُوّاقُ سيّارات الأجرة، التي ركبتها إلى مدن الجزائر، في طليعة هذه الأصوات. منهم عمّي بوجمعة البلعبّاسي، الذي كنت أتقصّد الرّكوبَ معه، كلّما سافرت من العاصمة إلى مستغانم.
[2]
على يديه اللتين تسهوان عن المقود أحيانًا، من غير أن تُفْلِتا المركبةَ، تعلّمت كيف يجب على الرّاوي أن يصمت تمامًا، في اللحظة التي ينطلق فيها أحدُهم في التطهر بالسّرد.
[3]
ركب معي في ديسمبر 1993، شابٌّ سألته، بمجرّد أن رأيته، إن كان عسكريًا. فقد كنت أقبض عليهم بطاقاتهم، وأدسّها في مكانٍ ما في جوف السياّرة، خوفًا عليهم من أن يُعرفوا في الحواجز المزيّفة. لكنّ صاحبنا قال لي إنه طالب في جامعة مستغانم. وقبل أن ندخل خميس مليانة وجدنا أنفسنا، فجأةً، أمام حاجز لشبابٍ ملتحين يحملون سلاحًا.
استوقفوني فوقفتُ، وسألني أحدُهم: «هل معك خرفان»؟ وهي عبارة كانوا يعنون بها، في تلك الأيّام، شبابَ الخدمة الوطنية. فأجبته في هدوء: «لا أظنّ ذلك». قال لي، بعد أن فحص السيّارة من الدّاخل: «إنّ خبرتك كانت ستجعلك ـ لو وظّفتها ـ تعرف أنّ هذا خروف». وأشار إلى الشابّ الذي قال إنّه طالب في الجامعة.
أمره بالنزول فشرع الفتى يتمتم بالشّهادة، وبعد لحظاتٍ قال لي من أنزله: يظنّ أنّ جواربه بعيدة عنّا! كان يُخفي البطاقة العسكرية هناك. دار إليه في سرعة البرق، وخطفه من رجليه فسقط أرضًا، ماسكًا إياه من صدره وباركًا عليه بركبتيه. غمز رفيقًا له، فجرّ عليه بالموس.
سكت عمّي بوجمعة البلعباسي التاكسيور. لا شكّ في أنه دخل في الحالة من جديدٍ، فعجز عن الكلام، تمامًا كما في الحالة الأصل، ثمّ رفع رأسَه إلينا في المرآة: أتدرون السّبب الذي جعلني لا أنسى ذاك الفتى بالذّات؟ عبارة قالها وهم يهمّون بذبحه: أناشدكم بالله العظيم وبرسوله الكريم ألا تشوّهوا وجهي حتى لا تحزن أمّي أكثر. لكنهم جدعوا أنفَه وأذنيه وشفتيه. أخرج الذابحُ منديلًا من جيبه، ووضع الأعضاءَ المجدوعة فيه: هذه هديتنا إليك لأنك تستّرتَ على الخروف.
[4]
سأحكي لكم هذه أيضًا: في 17 ماي 1995 حان دوري لأنادي على المسافرين من العاصمة إلى مستغانم. كان النهار ظهرًا، وكان الملل سيّدًا. فقصدتني أربعُ فتياتٍ يرتدين الحجابات، وليس على وجوههنّ ماكياج. طلبن منّي أن أنطلق، لأنهنّ سيدفعن المقعدين المتبقيين.
كان كلّ شيءٍ عاديًا. وما أن تجاوزنا البليدة بقليل، حتى نزعن الخمارات وأشعلن السّجائر وشرعن في التصفيق والغناء. قالت من بدت زعيمةَ الموكب: كيف سمّاك الله يا عمّي؟ قلتُ: لا تهمّ الأسماء يا مخلوقة، هل معكنّ حشيش؟ قالت: نعم. قلت: ارْمِينَهُ، فرجال الأمن لا يتسامحون معه، وافعلن ما ظهر لكنّ، فأنا أيضًا أحتاج بعضَ الهبل.
كنتُ يومها مجروحًا بذبح تاكسيور عشنا معًا سنواتٍ طويلةً، وحدثت لي أمور أخرى لا تعجب، فانخرطت معهنّ في الغناء. كنّا نغنّي ونصفّق ونُدَرْبِكُ مثل المجانين. لقد جئن، كما قلن، لييستنشقن هواء الحياة في الغرب الجزائري. تجاوزنا وادي رهيو بقليل، فوجدنا رأسًا معلّقةً في شجرة.
ضاعفتُ سرعة السيّارة، فصرختْ إحداهنّ، كانت تُسمّى حميدة: توقف.. توقف. سانَدْنَها عفويًا في الطلب: توقف.. توقف. توقفتُ فنزلن/ توجّهن إلى الرّأس/ حرّرنها من الشجرة/ رحن يندبنها كأنها لأبيهنّ/ لفّتها حميدة في خمارها/ دفنتها في خشوع/ قرأن الفاتحة عليها/ سأريكم المكانَ حين نصل إليه/ عدن إلى السيّارة ذابلاتٍ، فقالت حميدة: هل انتهت رحمة ربّي في هذا البلد؟ إذا لم يكن له أهل، ألا يبكي عليه أحد؟ قلت: وما يدريك أنه لإرهابي؟ قالت: ما يهمّ أنه لإنسان. وشرعتْ تردّد أغنية «راس المحنة».
عبد الرزاق بوكبة