أطلقت وزارة الداخلية والجماعات المحلية و التهيئة العمرانية، أمس، بمعية قطاعات وزارية أخرى حملة وطنية لتحسيس المواطنين بالأثر الايجابي والدور الهام...
حدد بنك الجزائر، المبلغ الأقصى المسموح بإخراجه من العملة الأجنبية، من طرف المسافرين المقيمين وغير المقيمين، بما قيمته 7500 أورو، مرة واحدة في السنة...
وجهت وزيرة التضامن الوطني والأسرة وقضايا المرأة صورية مولوجي تعليمات للمدراء الولائيين للقيام بخرجات ليلية عبر مختلف أنحاء الوطن، مع تجنيد الخلايا...
* نـظام المخـزن تحــالف مع القوى الاستعمــارية كشف عضو الحزب الوطني لجمهورية الريف، يوبا الغديوي، أمس السبت، أن تشكيلته السياسية ستتقدم قريبا إلى...
يحتفي «كراس الثقافة» في عدده لهذا اليوم، بالراحل الدبلوماسي والكاتب والصحفي محمد الميلي، ويستحضره ويستحضر مآثره وسيرته الإعلامية والتاريخية من خلال شهادات بعض الكُتاب والإعلاميين والأكاديميين الذين عاصروه، والذين ربطتهم به علاقات صداقة وعمل. شهادات متنوعة تحاول إيفاء الرجل حقه وإبراز المكانة التي يستحق.يذكر أنّ محمد الميلي توفي يوم الخميس 8 ديسمبر، بالعاصمة الفرنسية باريس، عن عمر ناهز 87 سنة، بعد صراع مع المرض وشيّع إلى مثواه الأخير بمقبرة سيدي يحيى بالعاصمة.
استطلاع/ نوّارة لحــرش
حميد عبد القادر: كاتب و صحفي
قلّما تعرفت على شخصية تضاهي شخصية محمد الميلي
اكتشف المرحوم محمد الميلي، كاتبا، قبل أن أتعرف عليه شخصيا. قرأت كتابه "فرانز فانون والثورة الجزائرية"، منتصف الثمانينيات. لا أنكر أنّ الكتاب أثر عليّ أيّما تأثير، من عدة نواحي، فأسلوب الكتاب يندرج في أسلوب السهل الممتنع، يزاوج بين الأسلوبين الأدبي والصحفي، ويسير على هدى خفة ما زلتُ ألتمس عذوبتها.
حديثي هنا لا ينبعُ من زاوية أيّ "نوستالجيا"، بل من زاوية وقع الاكتشاف الذي يبقى راسخا في الذاكرة لا ينمحي. اكتشفتُ حينها كاتبا جزائريا لا يقل أهمية، من حيث أسلوب الكتابة، عن أي كاتب عربي. وبلغ حد تأثري بكتاب المرحوم الميلي سالف الذكر، أنّني لجأت إلى فكرة إدراج الحوار أثناء تأليفي لكتابين تاريخيين من كتبي، الأول حول "فرحات عباس"، الذي جاء تحت عنوان "رجل الجمهورية"، والثاني حول "عبان رمضان" وهو كتاب "مرافعة من أجل الحقيقة". وقد ساعدني الكتاب على فهم مسار المناضل الكبير "فرانز فانون"، الذي لم أكن أعرف عنه آنذاك، سوى أنّه جاء من "المارتينيك" للنضال في صفوف الثورة الجزائرية. كما اكتشفت أنّ حرب التحرير هي التي أثرت على فانون، وليس العكس. هذا ما أراد الميلي أن يقوله في كتابه.
بعد الكِتاب، التقيت بالمرحوم الميلي نهاية التسعينيات، في خضم الحملة التي استهدفت عبان رمضان من طرف خصومه التقليديين. كان الميلي مدافعا عن عبان، رفيق دربه وزميله في صحيفة "المجاهد" إبان حرب التحرير. مع الميلي أدركت صواب خياراتي، ومعه تيقنت أن عبان كان فعلا بمثابة رمز المثقف داخل جبهة التحرير الوطني، وأن اغتياله شَكَّلَ بالفعل نقطة سوداء أدت إلى تراجع دور المثقف، وهي نفس الفكرة التي دافع عنها المرحوم عمار بلحسن في كثير من كتاباته. كان الميلي يتحدث عن عبان بكثير من الاحترام، وهو نفس الاحترام الذي لمسته عند بن يوسف بن خدة، وعدد من قادة الثورة الذين حاورتهم. هذا اللقاء الأوّل مع محمد الميلي، جعلني أدرك أنّ الرجل من طينة نادرة، يُقدِر المثقف، ويُعلي من شأنه، ولا ينزل به المنزلة السفلى، وهذا ما جعلني أشعر بكثير من الحزن، والأسى لرحيله. كان باب بيت الميلي مفتوحا على الصحفيين، يدخلونه متى يشاءون، وبدخوله يجدون إنسانا في قمة التواضع، يُسهل لهم مهمة أداء عملهم، فيبدو في صورة رجل بشوش، يخوض في مواضيع الحياة كما في الفكر والأدب بكلّ عفوية، فيسرد حكايات معاشة عن الثورة، وعن عمله في صحيفة "المجاهد"، فتتابع أنت حدثيه الشيق بكلّ اهتمام، فتضحك أحيانا، لأنّ للنكتة وللهزل مكان وحضور مُميزين في كلّ أحاديث الميلي، وأن الإكثار من الجد يؤدي إلى قنوط قد يعكر صفو الحديث. أقولها صراحة، قلما تعرفت خلال مساري المهني الذي تجاوز ربع قرن، شخصية مميزة مثل شخصية محمد الميلي رحمه الله.
محمد نور الدين جباب: أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر 2
لماذا لم يُصبح حسنين هيكل الجزائر كما كان يتمنى؟
لا يصح الحديث عن الكاتب والصحفي محمد الميلي الذي ودعنا منذ أيام إلا مقرونا بالكاتبة والصحفية "زينب" وهي زوجته ورفيقة دربه وابنة الشيخ الجليل الشهيد العربي التبسي التي قال عنها الرئيس الهواري بومدين أن زينب هي الرجل لِما عُرف عنها من قوة الشخصية والشجاعة والجرأة والإقدام. محمد الميلي بدأ كاتبا وصحفيا في جرائد الثورة الجزائرية وبعد الاستقلال رغم مهامه الدبلوماسية لم ينقطع عن الكتابة التي كان يفضلها عن أية وظيفة أخرى، ورغم قربه من الرئيس بومدين لم يفسح له المجال ولم يمنحه التأشيرة لكي يكون منظر المرحلة. بعد رحيل هواري بومدين اقترب محمد الميلي من الرئيس الشاذلي بن جديد، وقتها كان سفيرا باليونان، حيث كتب سلسلة من المقالات بمجلة "المستقبل" التي كان يصدرها من باريس الكاتب اللبناني نبيل خوري. لكن لا الشاذلي بن جديد ولا هواري بومدين استفادا من كفاءة وخبرة المجاهد والكاتب محمد الميلي للتنظير والدفاع عن حكمهما .
في مثل هذه الوضعية يُطرح السؤال الكبير: "لماذا الأنظمة الجزائرية المتعاقبة لم تكن في حاجة لمنظرين ومثقفين يدافعون عنها، ولماذا أيضا لم يظهر في الجزائر مع جميع الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال كاتب بقامة محمد حسنين هيكل أو نصف حسنين هيكل أو حتى ربع حسنين هيكل"، عِلما أنّ جميع الأنظمة في العالم لها كُتاب يدافعون عنها.
المسألة في تقديري تاريخية وليست طارئة، لها جذور في تاريخ الجزائر كانت وراء العداوة الكبيرة بين السياسي والثقافي حيث كان المثقف الجزائري في لحظات الحسم التاريخي يتخلى عن مهامه الوطنية إما بالاستكانة والخنوع، أو الهروب نحو الخارج وهناك شواهد كثيرة عبر تاريخ الجزائري تبين كيف كان المثقف الجزائري يستكين أو يهرب نحو الخارج. حتى لما أراد الاحتلال خلق نخبة جزائرية تكون وسيطا بين الأهالي وإدارة الاحتلال كما بينت ذلك الكاتبة "كلونا" في كتابها المهم "المعلم الجزائري" حيث بينت أنّ النخبة الجزائرية التي خلقها الاحتلال لتكون وسيطا بين إدارة الاحتلال والأهالي انسلخت عن شعبها واندمجت مع الاحتلال، ما يعني أن المثقف الجزائري كان تاريخيا يمارس الهجرة والتكفير قبل الحركات الأصولية المعاصرة فكان يهاجر، إمّا خارج الوطن أو نحو إدارة الاحتلال وهذا ما يفسر لنا كيف ولماذا نشأت الحركة الوطنية الجزائرية داخل الأوساط العمالية في المهجر وليس داخل أوساط النخبة .
لقد كان أبو الوطنية الجزائرية بلا منازع "مصالي الحاج" عاملا في مصانع شركة "رونو" الذي أسس مع رفاقه حزب نجم شمال إفريقيا في عشرينيات القرن الماضي. منذ ذلك التاريخ انقسم العمل السياسي الجزائري بين الحركة الوطنية الاستقلالية التي نشأت داخل الأوساط الشعبية التي أفرزت قيادات ثورية من داخلها التي لم تنل نصيبها من التعليم، بينما النخبة أسست أحزابا وراحت تطالب بالاندماج وبعد قيام الثورة من طرف الحركة الاستقلالية بقيادة جبهة التحرير التي كانت في حاجة إلى نخب يتكلمون باسمها ويمثلونها في الخارج اضطرت إلى "توظيف" بعض المثقفين واسندت لهم هذه الهمة وظلت الثورة تنظر إليهم بوصفهم موظفين عند الثورة وليس ثوارا، أي يؤدون مهمة مدفوعة الأجر.
فرحات زايت: كاتب صحفي
كان من أبرز القامات الفكرية والإعلامية التي تخرجَ على يديها جيل كامل من ألمع الصحافيين
يوم التحقتُ بوكالة الأنباء الجزائرية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وجدت بصمات محمد الإبراهيمي الميلي، رحمة الله عليه، ما تزال بادية للعيان من خلال سلوكيات عُمال وصحافيي الوكالة، رغم أنّه كان قد مر ما يقارب الخمس سنوات على رحيله من هذه المؤسسة العريقة التي عُين مديرا عاما لها من 1974 إلى 1977. كان واضحا أن تأثيره على هؤلاء الزملاء قد بلغ مداه إلى درجة أنّ كثيرا منهم اتخذوا من أفكاره منهجا لحياتهم المهنية وورقة طريق لعملهم اليومي، سواء كانوا صحفيين، أو إداريين ومُسيرين، فبعضهم كان معجبا بانضباطه، وبطريقة تلقينه هذا الانضباط لمن حوله وخاصة من الشباب، ليس بالردع والجزر وإنّما بإعطاء المَثل، كأن يأتي إلى العمل مبكرا ليسبق الجميع إلى قاعات التحرير بغية حثهم بطريقة ذكية، ودون أن يشعر أي أحد بالإحراج، على ضرورة احترام الوقت والتفاني في العمل لتحسين صورة الوكالة وزيادة مردودها حتى يمكنها رفع التحدي والقيام بالدور المنوط بها على أحسن وجه.
بينما يُبرز البعض الآخر منهم الجانب الإنساني في الرجل فيقولون عنه أنّه كان ذو أخلاق طيبة، وعادلا "يعامل الناس على قدم المساواة وينفر من كلّ ما له علاقة بالمحاباة والجهوية، في حين يركز آخرون على ما حباه الله به من ثقافة واسعة سمحت له بالاطلاع على مختلف مستجدات عالم الإعلام والاتصال مؤكدين في هذا الصدد أن شغله الشاغل طيلة بقائه على رأس المؤسسة كان البحث عن أنجع السُبل لرفعها إلى مصاف الوكالات العالمية، أو على الأقل التوصل إلى تقديم أخبار ذات مصداقية تراعى فيها معايير السرعة والدقة والموضوعية المطلوبة حتى تستطيع الحفاظ على مركزها المرموق في قطاع الإعلام.
ومما لا شك فيه أنّ هذه الخصال الحميدة التي ميزت مشواره المهني كإعلامي، ليس فقط في وكالة الأنباء، وإنّما في كلّ المؤسسات الإعلامية الأخرى التي مر بها، وهي عناوين "المجاهد" و"الشعب" و"المجاهد الأسبوعي" ثم "المدرسة العليا للصحافة"، تؤهله بكلّ جدارة واستحقاق ليكون قامة من أبرز القامات الفكرية والإعلامية التي تخرجَ على يديها جيل كامل من ألمع الصحافيين الجزائريين، كفاءة وانضباطا وأخلاقا مهنية. كما أتصور أن مناقب الرجل المتعددة، وتفانيه في خدمة بلده وشعبه هي التي جعلت الاختيار يقع عليه لتبوء المسؤوليات في الظروف الصعبة والأوقات العصيبة، ولا أدل على ذلك من تعيينه وزيرا للتربية الوطنية في حكومة مولود حمروش التي جاءت عقب أحداث أكتوبر الأليمة، وما تبعها من تشنجات وإرهاصات سياسية وأمنية واجتماعية أدت إلى بروز التيارات الإسلاموية وظهور "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" (الفيس) إثر فتح المجال السياسي والدخول في مرحلة التعددية السياسية والإعلامية.
ويجمع كلّ المحللين على أنّ تلك المهمة كانت في غاية الصعوبة، فقد كان "الفيس" قد شن إضرابا مباشرة بعد تنصيب هذه الحكومة للاحتجاج على فرض الاختلاط في الثانويات، وكان قادته يريدون الاستحواذ على المنظومة التربوية، ولم يعد أمام حمروش بدا من الاستعانة بخبرة وكفاءة محمد الميلي وقدرته على إقناع هؤلاء بصفته مثقفا كبيرا وابن جمعية العلماء المسلمين. وبالفعل تم تعيينه على رأس الوزارة، وبعد عدة اتصالات مع قادة الفيس تم التوصل معهم إلى حل وسط للمشكل المطروح ولغيره من قضايا التربية والتعليم.
وفي ظروف قاسية أيضا تم تعيين الفقيد مباشرة بعد الاستقلال على رأس جريدة "المجاهد"، وكُلف بعدها بتأسيس أول صحيفة معربة وهي يومية "الشعب" كما أشرف على تسيير "المدرسة العليا للصحافة". وفي المجال الدبلوماسي مثل الجزائر في منظمة اليونيسكو بغرض صد الهجومات المتتالية ضد الجزائر في أواخر الثمانينيات. هذه نبذة بسيطة عن المسيرة النضالية لمجاهد كبير كرّس حياته لخدمة العلم والتفاني في حب الوطن، وإذا أخذنا بالمنطق القائل لكلّ قطاع بطل يبدع في تسييره ويوفر له سبل الرقي والسؤدد، فإن محمد الميلي رحمه الله سينصب بلا منازع بطلا في ثلاثة قطاعات: "الثقافة، الإعلام والدبلوماسية" بالإضافة إلى كونه مجاهدا.. وواضح جدا أنّه ارتقى إلى مصاف الأبطال هذه بفضل الخصال الحميدة التي اجتمعت في شخصه والمستمدة، حسب رأيي، من مصادر ثلاثة أنارت طريقه وزودته بإسمنت العلم والقوة والصمود وسداد الرأي وهي أولا: محيطه العائلي، وهذا بفضل والده العلامة الشيخ مبارك الميلي وزوج خالته القاضي محمد نجار الذي تكفل بدراسته بعد وفاة والده، إذ أرسله لمزاولة دراسته في جامع الزيتونة بتونس. ثانيا: مشواره الدراسي وما حُظي به في مدرسة العلامة عبد الحميد بن باديس والشيخ العربي التبسي، ثم جامع الزيتونة. ثالثا: مساره النضالي بفضل احتكاكه بعدد من قادة الثورة البارزين وفي مقدمتهم الشهيد عبان رمضان الذي كان يُكِنُ له إعجابا واضحا، وكثيرا ما كان يستشهد بأقواله وبمواقفه البطولية.
ناصر جابي: أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الجزائر
كان الرجل المختار لأداء الكثير من المهام والمناصب الحساسة
أتذكر اليوم واستثناء "البورتري" الذي قمتُ به للمرحوم محمد الميلي والصادر بمؤلف "الوزير الجزائري أصول ومسارات" عن دار الشهاب منذ سنوات. أتذكر هذا تكريما لروح هذا الرجل اللطيف الذي تعرفت عليه عن قرب بمناسبات كثيرة من بينها كان لي سفر معه إلى الخارج.
قد لا يكون الإنسان في حاجة إلى حنكة سياسية كبيرة، لاكتشاف الأدوار التي كان من المطلوب أن يؤديها تعيين شخصية مثل محمد الميلي على رأس وزارة التربية، ضمن طاقم حكومة مولود حمروش، إذا راعينا من جهة الظرف السياسي الذي تم فيه تشكيل الحكومة وكلّ الملابسات السياسية والفكرية التي عرفتها جزائر ما بعد أحداث أكتوبر1988، وما ميزها من بروز قوي للتيار الإسلام السياسي. اقترابنا أكثر للتعرف عن الرجل المختار لأداء هذه المهام من خلال هذا المنصب، ضمن سياق هذا الظرف السياسي الحساس، يمكن أن يفيدنا كذلك في فهم منطق هذا التعيين.
محمد الميلي وزير تربية حكومة مولود حمروش، من الوزراء القلائل الممثلين بقوة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كعائلة سياسية ووسط ثقافي وحتى عائلي، فالرجل بِكر مبارك الميلي، مؤرخ الجمعية وأحد قيادييها، وصهر الشيخ العربي التبسي وأحد أساتذة معاهد الجمعية فيما بعد.بالفعل فمحمد الميلي مولود في سنة 1929 بالأغواط بالجنوب الجزائري، أين كان يدرس الأب مبارك الميلي بعيدا عن منطقته الأصلية الميلية وليس ميلة كما هو شائع من الاسم. محمد الذي كان الابن البكر لمبارك الميلي ضمن عائلة مكونة من ذكرين وأربع بنات. عِلما بأنّ عائلة الميلي تعود في أصولها إلى عرش أولاد مبارك بالقرب من الشقفة بولاية جيجل، أين عُرف عن الجد من الأب ملكيته الفلاحية الصغيرة ، وتواضع المستوى التعليمي… في هذه المنطقة الجبلية الفقيرة.. لا أعتقد أنه كان يعرف القراءة، فكلّ ما كان يستطيع القيام به حفظ بعض القرآن كعادة الكثير من الجزائريين.. يقول الحفيد محمد عن الجد.
على عكس الجد من الأب، فقد كان الجد من الأم الميلي الذي تنسب له العائلة، مدرسا للغة العربية ضمن الأسلاك الرسمية، الجد من ألام ذو الأصول الأوراسية الذي تتلمذ لديه الوالد مبارك الميلي، قبل الزواج من إحدى بناته التي كانت تحفظ بدورها جزءا من القرآن.
تابع الأب مبارك الميلي دراسته في قسنطينة قبل التوجه إلى جامعة الزيتونة بتونس والحصول على شهادة التحصيل 1924، مبارك الميلي الذي كان لا يحسن من الفرنسية إلا القليل حسب شهادة ابنه البكر محمد الذي سيحصل على نفس الشهادة ومن نفس الجامعة في سنة 1950 والتخرج على رأس الدفعة، كما كان الشأن بالنسبة للأب، ليكون حظه أوفر من الأب في علاقاته باللغة الفرنسية التي بدأ يتعلمها منذ المرحلة الابتدائية الأولى في المدرسة الفرنسية في مدينة الأغواط مسقط رأسه. بعد الانطلاق في مزاولة المرحلة الابتدائية من تعليمه الابتدائي في هذه المدينة الصحراوية، تنتقل العائلة إلى ميلة، أين سيستمر الطفل محمد في تعليمه الابتدائي بالمدارس الفرنسية قبل وفاة الأب المبكرة /1945، وهي الوفاة التي ستُحمِل بِكر العائلة مسؤوليات كبيرة، كما جرت العادة ضمن تقاليد العائلة الجزائرية.
غياب الأب المُبكر جعل "مجلس" العائلة كما يسميه الابن محمد وعلى رأسه زوج الخالة القاضي، يقرر أن يكون من مسؤوليات الابن البكر مواصلة مسيرة الأب الزيتوني تعليميا ومهنيا، فكان القرار ألا… يدخل الابن الثانوية الفرنسية بالجزائر، بل يتم توجيهه نحو الجامع العتيق بتونس، للحفاظ على استمرارية دور الأب والعائلة الثقافي.. من سيستفيد من هذه الكُتب ويطلع عليها، كان يتساءل زوج الخالة القاضي محمد نجار وهو يتوجه بنظره نحو مكتبة الوالد بالمنزل العائلي، مباشرة بعد وفاته. بدل السبع سنوات الضرورية للحصول على شهادة التحصيل بجامعة الزيتونة التي وصلها محمد الميلي مباشرة بعد نهاية الحرب الكونية الثانية وعمره لا يتجاوز الست عشرة سنة من العمر، لم يقض في نهاية الأمر إلا خمس سنوات، فقد قبل في السنة الثالثة مباشرة للتوجه بعد التخرج على رأس دفعته كما كان حال الأب/1950/ صوب مدينة قسنطينة للعمل كأستاذ بمعهد ابن باديس الذي كان يسيره العربي تبسي أحد الوجوه القيادية المعروفة لجمعية العلماء.
خمس سنوات فقط قضاها محمد الميلي في قسنطينة كأستاذ بمعهد عبد الحميد بن باديس، أين استقر عائليا بالزواج من إحدى بنات مدير المعهد الشيخ العربي التبسي قبل التنقل إلى تونس مرة ثانية ابتداء من 1956 بعد التطورات السياسية والأمنية المترتبة عن اندلاع ثورة التحرير.. فقد جرت اعتقالات في مدينة قسنطينة داخل أوساط قريبة، فاغتيل رضا حوحو وحصل إضراب ناجح قام به الطلبة فاجأ حتى جبهة التحرير، كما تم توزيع مناشير مما جعل الجبهة تبعث بأحد قيادييها إلى قسنطينة للاستفسار حول الوضع.اتصل محمد الميلي بعبان رمضان بالجزائر العاصمة نتيجة لهذه الأحداث التي عاشتها مدينة قسنطينة ليوافق على ذهابه إلى تونس… شيوخ جمعية العلماء لم يكونوا على علم بكلّ تفاصيل النشاطات داخل الوسط الطلابي، لدرجة أنه يمكن القول معها، أنّ لا علاقة بين هذا النشاط السياسي وقرار الجمعية بالانضمام إلى جبهة التحرير في نفس الفترة 1956.. يذكر الرجل حوالي نصف قرن بعد هذه الأحداث: "صدر أول عدد للمقاومة الجزائرية بالعربية في نوفمبر1956.. كنتُ المسئول الفعلي عنه قبل انضمام فرانز فانون وعبد الرزاق شنتوف الذين تكفلوا بالنسخة الفرنسية
la résistance algérienne.".
تعرف محمد الميلي خلال هذه الفترة من عمله بإعلام جبهة التحرير بتونس والمغرب على الكثير من الوجوه السياسية والثقافية الوطنية مثل رضا مالك وعلي هارون وزهير إحدادن وعبد الرحمان شيبان، كما عاش عن قرب الصراعات السياسية التي استفحلت بين رجال الثورة ومؤسساتها على الحدود المغربية والتونسية، صراعات خرج بها بأحكام وتصورات عن الرجال كانت لصالح عبان رمضان على حساب بن بلة أو حتى عبد الحفيظ بوالصوف.. الذي بعث لي بأحد معارفنا المشتركين ليقول لي عندما رأيته في المغرب في1957… بأنّه من الأحسن بالنسبة لي، أن أتظاهر بعدم معرفتي القديمة به، هو ابن مدينة ميلة مثلي… بوالصوف كان فعلا رجلا رهيبا...
استمر محمد الميلي بعد تجربة "المقاومة الجزائرية" في تونس والمغرب وصدور "المجاهد" في نوفمبر1957 ولغاية قرار وقف إطلاق النار في عمله بالميدان الإعلامي، أين تعرف عن قرب عن التجربة الإعلامية التونسية من خلال عمله في جريدة "الصباح" التونسية، زيادة على نشاطه الإعلامي اليومي في جرائد الثورة التي كونت تجربته الأساسية خاصة خلال فترة قيادة عبان رمضان الذي لازال يكن له الرجل إعجابا واضحا.. من التقاليد التي رسخها عبان أنه كان يُعلم رجال إعلام الثورة بكلّ تفاصيل المشهد السياسي، زيادة على المجهود الذي بذله في توحيد إعلام الثورة.
بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في ربيع 1962، كنتُ الوحيد مع رضا مالك الذي دخلت إلى الجزائر أين تكلفت بإصدار "المجاهد"، وكانت طائرة عسكرية فرنسية هي التي نقلتنا من تونس إلى "رغاية" مباشرة ومن هناك إلىrocher noir بومرداس خوفا من الأعمال الإرهابية للمنظمة الخاصة الفرنسية OAS، رغم هذه الاحتياطات فقد فجروا المطبعة التي كان مقرر أن يتم طبع المجاهد فيها، مما أجبرنا على إنجاز الطبعة الخاصة بالاستقلال في قسنطينة بمطبعة la dépêche de Constantine وسحب 100 ألف نسخة.
أول منصب مهني لمحمد الميلي بعد الاستقلال كان مديرية جريدة الشعب، أين لازال يتذكر الرجل بإعجاب مواقف الأخوة المصريين الذين تبرعوا للجزائر بمطبعة كاملة بتقنييها. لكن مباشرة بعد صدور الأعداد الأولى بعد 11 ديسمبر 1962 استقال الرجل احتجاجا على تعيين الرئيس بن بلة أحد معارفه على رأس الجريدة.. بعد تجربة الشعب يتوجه الميلي إلى المجلس الوطني للعمل كمترجم لمدة أقل من سنة للتوجه بعد ذلك إلى التعليم في الحراش.
لازال الرجل يتذكر يوم 19 جوان جيدا: "فقد كان يوم سبت، ذهبت فيه مع الأولاد إلى البحر، عند دخولي في المساء وجدت رسالة من بومدين بعثها لي عن طريق شريف بلقاسم، اقتراح الرجل لي أن أعود إلى جريدة "الشعب" ليستقر الأمر في النهاية على أسبوعية "المجاهد" وتأسيس مدرسة للصحافة، لتكون مديرية الوكالة الوطنية للأنباء هي المحطة الإعلامية الأخيرة بين 1974/77، قبل التوجه نحو العمل السياسي".
يلتحق الرجل بعد هذه التجربة الإعلامية المتعددة الطويلة بالمجلس الوطني الشعبي كنائب عن قسنطينة بين1977/1979 لتكون الدبلوماسية هي المجال الآخر الذي سينشط فيه الرجل كسفير في أثينا1982/84، وممثل للجزائر باليونسكو 1984/88 وتونس التي غادر سفارة الجزائر فيها عند تعيينه كوزير للتربية في حكومة حمروش 1989 لغاية جوان 1990.
فقد كان شرطي يقول الميلي: "عندما اتصل بي حمروش في تونس بالتلفون أن أغادر المنصب بعد سنة وليس أكثر كما حصل فعلا بعد أن أقنعني أن الأمور جدية هنا فالفيس-الجبهة الإسلامية للإنقاذ- يريد أن يسيطر على المنظومة التربوية وأنت مقبول من قِبل كلّ الأطراف على رأس وزارة التربية. بالفعل الأمور كانت صعبة فقد نظم الفيس إضرابه في الأيام الأولى بعد تنصيب الحكومة للاحتجاج على فرض الاختلاط بالثانويات.. جاءني علي بلحاج وعباسي طالبين مني إلغاء الإجراء. قائلين لي أن الإضراب ليس ضدك، فقد كان مقررا في وقت الوزير السابق... أنت ابن جمعية العلماء ولا يمكن أن تقبل بهذا، فكان ردي أن مدارس جمعية العلماء نفسها كانت مختلطة، لنتفق على بقاء الثانويات غير المختلطة كما هي دون أن نتراجع عن ما هو مختلط منها. كما كان الاتفاق مع رئيس الحكومة الذي كنت أعرفه منذ كان صغيرا في قسنطينة... غادرت الحكومة قبل إقالتها ببعض الأسابيع". الدبلوماسية التي عاد لها الرجل بعد منصب الوزارة كسفير في القاهرة 1991/1992 ليكون آخر منصب قبل التقاعد، مديرية المنظمة العربية للثقافة والعلوم 1992.